منظمة "العقل طينة" لحقوق المجانين

28 يوليو 2017
+ الخط -
روى لنا الزميل المجنون أبو نزار حكاية طريفة جرت معه حينما كان نزيلاً في مشفى الأمراض العقلية "الدويرينة" وكان يعيش في قسم البارانويا جناح جنون العَظَمة فقال:

كنا عائدين إلى المهجع الخاص بنا، بعد أن تناولنا طعام العشاء، إذ اعترض طريقَنا سيئ الذكر مُطَوِّعُ المجانين، حاملاً في يده كرباجَه المصنوع من عصب الثور، يمشي أمامه وحوله رجالُه الذين يفهمون عليه بالإشارة، فيقتلون ويضربون ويفتكون بكل من لا يستجيب لأوامره، وصرخ فينا صوتاً جعلنا نخشب في أماكننا، واعتلى حجراً وجده في جانب من الطريق، وقال:    

- اسمعوا يا حثالة! يا دواب! يا هوام! لقد حضر اليوم إلى عصفوريتكم الصامدة وفدٌ من منظمة عالمية تُعنى بحقوق المجانين، اسمها "العقل طينة"، قد طلب أعضاء الوفد من المدير العام أن يجمعهم بعينة من المجانين. ولأن الحكمة تنقط من أكمام بنطلون مديرنا العام تنقيطاً، فقد اختاركم أنتم جماعة البارانويا، لتكونوا تلك العينة،.. فمن غير اللائق أن تلتقي المنظمة الدولية بالمهابيل والمخبولين والمصاريع والجدبان ذوي الثياب المجعلكة والشعر المنكوش والغباء المستحكم.
والآن هل تعرفون ما هو المطلوب منكم؟ المطلوب أن تلتزموا اللياقة والأدب، فإذا طُلب منكم الخرس اخرسوا، وإذا طلب منكم الكلام تكلموا، ولكن حذار ثم حذار أن تخوضوا في السياسة! مفهوم؟ كل شيء مسموح به، يا سرسرية، عدا..؟ 

صحنا بصوت واحد: عدا السياسة!

ولكن الذي حصل أن الاجتماع مع أعضاء الوفد تم من دون حضور المدير العام، ولا مطوع المجانين، وزادنا أعضاء الوفد من القصيد بيتاً حينما طمأنونا إلى أن ما سنقوله سيبقى طي الكتمان، فأخرجنا جنوننا كله على السياسة! هأ هأ كهي كهي، علي الطلاق بالثلاثة حكينا في السياسة ولم نحك في أي شيء آخر.. حكينا عن الفساد، وشيوع الرشاوى، والمحسوبيات، ورفع الوضيع، وإذلال العزيز، والسلب، والنهب، وتهريب الأموال، وإغلاق المعامل، وافتتاح السجون والعصفوريات،.. ظللنا نحكي ونقص ونضرب أمثلة حتى بدأ الملل يتسرب إلى أعضاء الوفد، فانبرى صديقنا أبو نبيرة يقول: ما رأيكم بنكتة لها علاقة بالآباء والأبناء؟

قال أعضاء الوفد بصوت واحد: يا حبذا.

قال: كان يعيش في إحدى الدول، في أحد الأزمان، رجل صالح، خَلَّفَ ولداً أخرق، لم ينجح قط في عمل، أو في قول جملة مفيدة، فطفق أبوه يقول له، ويعيد: الشي اللي بيحز في نفسي يا إبني إنك بعمرك ما رح تصير رجال.

وكانت هذه العبارة القاسية تحز في نفس الابن الفاشل، حتى جاء يوم زهق فيه من عيشته، فغادر البيت ومضى هائماً على وجهه، جدار يأخذه وجدار يتركه، حتى التقى بمجموعة من الناس المختصين بالإضرار بالناس وترويعهم، فعرض عليهم أن يشتغل معهم، فوافقوا شريطة أن يبقى مدة تحت الاختبار، وأن يقبض أجرته "على القطعة". ولما نجح في اختباراتهم جميعها رفَّعوه درجة، وصاروا يدفعون له راتباً شهرياً، ومرت الأيام وإذا برئيس المجموعة التي آوته يقع تحت الضرب، فضربه ضربة لا يمكن أن ينبت فوقها شَعر، وإذا بهم يعينونه مكانه، وإذا بالعز ينهمر عليه مثل مطر آذار (الذي يحيي ما بار وما اختبأ تحت الغمار وما فاته البَذّار)، ووقتها جلس على الكرسي البرام، وبرم فيه برمتين، وقال لعناصره: هاتوا لي فلاناً وفلانة.

وقد نسي أن يوضح لعناصره أن فلاناً وفلانة هما والداه، وأن المفروض بهم أن يعاملوهما بلطف، فذهب العناصر وشحطوا الختيار والختيارة إلى حيث يجلس الابن الذي قال لأبيه بشماتة: أما زلتَ مصراً على أني لن أصبح رجلاً؟ انظر كيف صرت هنا، وصار تحت يدي عناصر وسيارات ومصالح خير الله.

ووقتها قال له الأب بكل ما أوتي من قهر وحكمة: أنا ما قلت إنك ما رح تصير هون، أو هناك، أو في الخارج، أنا قلت إنك ما رح تصير رجل. وتبين أن كلامي صحيح!

دلالات
خطيب بدلة
خطيب بدلة
قاص وسيناريست وصحفي سوري، له 22 كتاباً مطبوعاً وأعمال تلفزيونية وإذاعية عديدة؛ المشرف على مدوّنة " إمتاع ومؤانسة"... كما يعرف بنفسه: كاتب عادي، يسعى، منذ أربعين عاماً، أن يكتسب شيئاً من الأهمية. أصدر، لأجل ذلك كتباً، وألف تمثيليات تلفزيونية وإذاعية، وكتب المئات من المقالات الصحفية، دون جدوى...