منظومة حرية التعبير ومأزق واقع الممارسة الإعلامية
أثار زوجان مغربيان جدلاً كبيراً في الإعلامين الفرنسي والمغربي، بعد تقديمهما طلباً للجوء السياسي في بلاد الأنوار. "اليوتوبرز" دنيا مستسلم وزوجها عدنان الفيلالي يقولان إنهما يتعرضان للمضايقة من طرف سلطات الرباط، بسبب "مواقفهما السياسية".
تتوفر الزوجة على قناة في منصة "يوتيوب"، تحمل اسم دنيا الفيلالي، تقدم فيها محتوى باللغة العربية، أما الزوج فلديه قناة ناطقة بلغة موليير. وخلال شهر يناير الماضي، سلطت وسائل إعلام فرنسية الضوء على وضعيتهما، من خلال تقريرين، الأول مكتوب ونشر في جريدة Libération، والثاني مصور بث على قناة TV5.
التقريران المذكوران تعرضا لانتقاد كبير من طرف عدد من الصحف الورقية والمواقع الإخبارية المغربية، التي اعتبرت أن هذا "الاهتمام الإعلامي" مجرد تضخيم لحدث عابر. من جهتهم، اعتبر عدد كبير من رواد شبكات التواصل الاجتماعي، أن المادتين الإعلاميتين المذكورتين، تفتقدان للتوازن والموضوعية، وتتماهيان بشكل كلي مع رواية المعنيين بالأمر.
كما رفض هؤلاء النشطاء اعتبار دنيا وعدنان "معارضين" للدولة المغربية، لأن المعارضين الحقيقيين، حسب وجهة نظرهم، "يملكون مشروعاً سياسياً بمرجعية فكرية متماسكة". ما عزز هذا الرأي، هو انخراط بعض المعارضين للنظام السياسي بالمغرب، في حملة انتقاد القصة التي روجها صحافيون فرنسيون عن الزوجين، مثل مصطفى أديب الضابط السابق في القوات المسلحة الملكية، والحاصل على جائزة الشفافية الدولية للنزاهة التي تمنحها منظمة العفو الدولية سنة 2000. بل إن جزءاً من الإعلام المغربي وبعض النشطاء ذهبوا بعيداً في انتقاداتهم، وكالوا عدداً من الاتهامات للزوجين، مثل التحريض على الكراهية والعنصرية والإشادة بمنظمة إرهابية ومعاداة السامية…
سواء تناولنا هذا الملف، انطلاقاً من زاوية معالجة الإعلام الفرنسي له، أو بمواقف نشطاء ومواقع إخبارية مغربية، فإنه يطرح إشكالاً أكبر. ويتعلق بحدود حرية الرأي والتعبير المنصوص عليها صراحة في العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية. صحيح أن حرية الرأي والتعبير مقدسة، ولا يجب المساس بها، ولا يحق لشخص أو مؤسسة حكومية الحد منها أو التضييق عليها، إلا أن المنظومة الكونية لحقوق الإنسان وضعت لها حدوداً لا يجب تخطيها.
في هذا الإطار، تنص الفقرة الثالثة من المادة 19 من العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية على أن ممارسة الحق في حرية التعبير تستتبعها واجبات ومسؤوليات خاصة، إما باحترام حقوق الآخرين أو سمعتهم، أو حماية الأمن القومي أو النظام العام أو الصحة العامة أو الآداب العامة.
بيد أن اللجنة المعنية بحقوق الإنسان، التي ترصد تنفيذ الدول الأطراف للعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، تشدد في التعليق رقم 34 الصادر سنة 2011، على أنه "عندما تفرض دولة طرف قيوداً على ممارسة حرية التعبير، لا يجوز أن تعرض هذه القيود الحق نفسه للخطر. وتشير اللجنة إلى أنه يجب ألا تنقلب العلاقة بين الحق والقيد وبين القاعدة والاستثناء".
إن القانون الدولي لحقوق الإنسان يرفض المساس بحرية التعبير، ولا يعترف في هذا الإطار بأي شكل من أشكال "الخصوصية"، التي يمكن أن تتذرع بها بعض الدول من أجل كبحها. فاللجنة المعنية بحقوق الإنسان تشدد على أنه "ينبغي للدول الأطراف أن تنفذ تدابير فعالة للحماية من الاعتداءات التي تستهدف إسكات أصوات الأشخاص الذين يمارسون حقهم في حرية التعبير".
في المقابل، لا يجوز استخدام هذا الحق بشكل سيئ، عبر سب أو قذف أشخاص معينين أو إهانتهم لأي سبب من الأسباب. لا يجب أيضاً التعبير عن مواقف تمييزية أو عنصرية ضد شخص معين أو مجموعة من البشر. وهو ما يتماشى مع منطوق المادة 20 من العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية، التي تحظر "أية دعوة إلى الكراهية القومية أو العنصرية أو الدينية تشكل تحريضاً على التمييز أو العداوة أو العنف".
وبالعودة إلى الجدل الذي أثارته قناة TV5 وجريدة "ليبيراسيون" الفرنسيتان، عقب تخصيصهما مادتين إعلاميتين بخصوص ملف طلب لجوء سياسي لزوجين مغربيين ناشطين على منصة "يوتيوب"، تطرح المعطيات المثارة من رواد شبكات التواصل الاجتماعي المغاربة إشكالية التزام وسائل الإعلام بالمنظومة الدولية لحقوق الإنسان، والتي تشكل عماد مواثيق أخلاقيات مهنة الصحافة في كل دول العالم.
فعلى الأقل، كان على هذا الإعلام الفرنسي فحص ما يرد على لسان المعنيين بالأمر عبر "يوتيوب"، ما وضعه في مأزق أمام الجمهور المغربي. فنتيجة لانعدام الحياد المهني، لم تأخذ المادتان الصحافيتان المسافة المطلوبة من الضيفين، عبر الإشارة مثلا أو مساءلتهما على ما يقومان ببثه من أقوال بشكل دوري عبر قناتيهما، وقياس مدى ملاءمته للمرجعيات الكونية لحقوق الإنسان المتعلقة بحرية الرأي والتعبير، المشار إلى بعضها في متن هذا المقال.
إن هذا النموذج، يبين لنا مدى خطورة تماهي الصحافي مع المنطق، الذي يمكن أن يفرضه الأشخاص القادرون على خلق ما يصطلح عليه بـ"Buzz" عبر شبكة الأنترنت، أو التماهي المطلق مع "Trend"، دون الأخذ بعين الاعتبار للمرجعية الكونية لحقوق الإنسان. وأيضاً للمعايير المهنية الواجب توفرها عند اختيار التطرق لموضوع دون غيره.
وبطبيعة الحال، فعدد المشاهدات ليس معياراً في هذا الإطار، وإلا فيجدر بالصحافيين في كل بلد أن يسلطوا الضوء على مئات الأشخاص، ممن يحققون ملايين المشاهدات، عبر محتوى لا يحترم دائماً قواعد العمل الصحافي وأخلاقياته.
في زمن ترسخ فيه شبكات التواصل الاجتماعي لمنطق عدد المشاهدات دون أية قيمة مضافة، يجب على الصحافي المهني، أكثر من أي وقت مضى، أن يتشبث بالهدف من وجوده، والذي يتجلى في التحري عند نقل الخبر ونقله إلى الجمهور بدقة وموضوعية. يمكن أن تكون قصة "طلب لجوء سياسي" مثيرة إعلامياً للصحافي، ولكن هذا لا يبرر أبداً عدم استحضار معايير أخلاقية وحقوقية وقواعد مهنية عند اختيار التطرق لها.