من حكايات البخلاء

26 أكتوبر 2017
+ الخط -
كان لنا في أيام الدراسة صديق اسمه مهنا، وكان لقبه، بسبب سماكة شفتيه، (أبو براطيم).

كان يدرس ويساعد أباه في رعي الماعز، وحينما حصلنا على شهادة البكالوريا أَهَّلَهُ مجموعُه للدخول في الهندسة الزراعية بجامعة حلب. ولأن أباه بخيل على نحو أسطوري، فإن أبا براطيم لم يترك رجلاً في البلد يمون عليه إلا وترجاه أن يذهب إليه ويقنعه بالموافقة على تسجيله في الجامعة، وأخيراً وافق أبوه على الطلب، بعد أن وضع عليه شروطاً أصعب من شروط استسلام ألمانيا في أواخر الحرب العالمية الثانية! 

أهم تلك الشروط أن من حقه، أي الأب، إذا لاحظ أن مصروف مهنا في الجامعة سيدخل ضمن نطاق البذخ و"البهنكة" أن يُجبره على ترك الجامعة دون أن يكون من حق الابن الاعتراض أو الاستئناف أو التلكؤ في المغادرة.

وفي أول سفرة لمهنا إلى حلب وقف في حضرة أبيه لاوياً رقبته مثل مرشح طيوب ومتواضع يطلب من الناس أن ينتخبوه، وقال له:

- أريد ثلاث ليرات، لأجل الذهاب إلى الجامعة!

 صفر الأب صفرة فجائية جعلت أكثر من "شلعة" حمام للجيران تطير مرعوبة، وقال له:

- ثلاث ليرات؟! الله يخرب ديارك ويطفي نارك، لأيش الثلاث ليرات ولاك؟ 

أخرج أبو براطيم ورقة مكتوبة ومحسوبة بدقة من جيبه وقال لأبيه مستأنساً بالورقة: ثلاثة أرباع الليرة ذهاب إلى حلب في الباص، وثلاثة أرباع الليرة إياب. نصف ليرة ثمن سندويتش فلافل. نصف ليرة ركوب بباص النقل الداخلي ذهاباً وإياباً. نصف ليرة قيمة دفاتر.

قال الأب: اشطب. اشطب بند (ثلاثة أرباع الليرة ذهاب إلى حلب في الباص). اكتب مكانها نصف ليرة ذهاب، ونصف ليرة رجعة.

قال مهنا: ياب، الأجرة إلى حلب ثلاثة أرباع، إسأل من تشاء عنها.

قال الأب: أعرف من دون ما أسأل، الأجرة ثلاثة أرباع الليرة في النهار، لكن الركوب في الباص العمالي بنصف ليرة.

دهش مهنا وقال: الباص العمالي، ياب، يطلع من إدلب الساعة أربعة الصبح، ويصل إلى مفرق الكرة الأرضية بحلب الساعة خمسة، وأنا دوامي يبدأ في تمام الثامنة.

قال الأب باستخفاف: أي كلها على بعضها ثلاث ساعات، يمضيها الله يا إبني. المهم أن توفر ربع ليرة.

وبعد مفاوضات طويلة، وافق أبو براطيم على ركوب الباص العمالي، وشطب بند الباص الداخلي، إذ أقنعه والده أن ركوب الباص ضروري لمن كان على عجلة من أمره، وأما هو فلديه ثلاث ساعات من الخامسة حتى الثامنة يستطيع أن يمشي خلالها إلى الجامعة ذهاباً وإياباً عدة مرات، والمشي، بحسب الأطباء، هو أفضل أنواع الرياضات.
 

ثم شطب بند السندويتش، واستعاض عنها بكسرة خبز مدهونة بالزيت على نحو خفيف، مع رشة ملح ورشة نعناعة على البيعة.

بذلك نزلت كلفة السفرة من ثلاث ليرات إلى ليرة واحدة، مع وعد قاطع بأن يكتفي مهنا بالذهاب إلى حلب مرتين في الأسبوع، عدا أيام الفحص. 

وهكذا استمر صديقي أبو براطيم يخوض المعركة تلو المعركة مع أبيه الذي كان يدفع ليرة واحدة مرتين في الأسبوع بنفس الصعوبة التي تغادر فيها الروح الجسد الدنيوي الزائل! حتى وصل إلى مطلع السنة الثالثة، ووقتها قرر أبوه شطب تسجيله في الجامعة! 

لم يبق في البلد رجل مصلح، ولا امرأة عاقلة حنون، إلا وذهبوا إلى أبي مهنا، ورجوه أن يتراجع عن قراره المجحف الذي سيقضي على مستقبل ابنه، ولا سيما أن اللقمة وصلت إلى الفم، دون جدوى. وحينما ألحوا في معرفة السبب قال: 

- هذه الجامعة اللعينة كلها أضرار، وأهم أضرارها أنها جعلت سوية ابني مهنا في رعي العنزات وحلبها وصناعة الجبن والقريشة تتراجع باطراد!!  

خطيب بدلة
خطيب بدلة
قاص وسيناريست وصحفي سوري، له 22 كتاباً مطبوعاً وأعمال تلفزيونية وإذاعية عديدة؛ المشرف على مدوّنة " إمتاع ومؤانسة"... كما يعرف بنفسه: كاتب عادي، يسعى، منذ أربعين عاماً، أن يكتسب شيئاً من الأهمية. أصدر، لأجل ذلك كتباً، وألف تمثيليات تلفزيونية وإذاعية، وكتب المئات من المقالات الصحفية، دون جدوى...