من حكايات حارتنا (8)... المنسي
عبد الحفيظ العمري
حارتنا واحدة من حارات الدنيا الضيقة، التي لا تنتهي حكاياتها ولن تنتهي.
وهنا أدوّن بعضاً من تلكمُ الحكايات.
(1): حكاية (المدير المدوَّر)
كان مديراً لإحدى منشآت حارتنا قبل عشر سنوات، وأقيل منها بسبب تُهم اختلاس مبالغ مالية وجّهت إليه، فاختفى الرجل، وظلت بضعة أخبار تتردد عنه، وكلها تكهنات، منهم مَنْ قال إنه سُجن، ومَنْ قال إنه خرج من الوظيفة العامة تماماً ولزم بيته، وقيل الكثير..
وضاعت أخباره في عباب أمواج الزمن التي تقلّبت بنا خلال عقد من الزمن، وفوجئ أهل الحارة، بعودة الرجل مديراً للمنشأة نفسها ثانية!
لا ندري كيف تسير الأمور في كواليس حارتنا المنسية!
المهم، وجد موظفو تلك المنشأة مديرهم القديم على باب منشأتهم يسبقه قرار تعيينه أو بالأصح إعادة تعيينه مديراً عليهم، فلا تسل عن حالهم، وكيف ألجمتهم المفاجأة..
فلا تتحدث في حارتنا عن قديم وجديد، فحارتنا آفتها النسيان، كما قال العم نجيب محفوظ ذات زمن..
***
(2): حكاية (المنسي)
تُنسى، كأنك لم تكن
شخصاً، ولا نصاً... وتُنسى
هكذا قال محمود درويش ذات زمن، وأظنه يتحدث عن نفسه، كما يلوح من باقي ألفاظ القصيدة..
في حارتنا شخص أعرفه، يكاد ينطبق عليه هذا الوصف، صحيح أنه ليس شاعراً، لكنه كان صاحب جولات وصولات في الحارة التي كانت تعمل له ألف حساب في تلك الأيام الخوالي..
فالرجل كان ملء سمع وبصر الحارة، فبالرغم من أنه لم يكن ذا منصب رسمي، إلا أن الحارة كانت ترجع إليه في كل صغيرة وكبيرة..
لا.. لم يكن عاقل الحارة، ولكنه كان رجلها الأول!
كيف؟
لا ندري!
كل ما عرفنا عنه من حكايات معمري الحارة، أنه كان الآمر والناهي في حارتنا المنسية..
ثم مرت الأيام، وانطفأ نجم الرجل، وصار منسياً، فلم تعد له الكلمة العليا، بل لم يعد له صوت، خصوصاً أن حارتنا تغيّرت ديموغرافياً، إذ وفد عليها كثير من خارجها واستوطنوها..
اليوم أصبح صاحبنا منزوياً في بيته العتيق، منسياً كأنه لم يكن..
فسبحان من له الدوام..
***
(3): حكاية (ما أحنا شي)
في حارتنا شيخ مهيب، قليل الكلام، وقد علقت بآذان الناس جملته التي دائماً ما يرددها في ختام كل حديث، وهي: ما أحنا شي!
جملة تحيلك إلى المتصوفة أو الزهاد الذين يلخصون الدنيا بعبارة!
ما أحنا شي؛ نعم، لسنا كبشر شيئاً يُذكر..
لكن مَنْ هذا الشيخ؟
كل ما يعرفه أهل الحارة عنه أن اسمه هائل، أو بنطقنا العامي: هايل، فلا ضرر من إبدال الهمزة ياءً، فهذا مما تجيزه اللغة..
لقد وجدوه يوماً في حارتهم، ولا يعرفون له أصلاً ولا فصلاً، فهو منعزل عنهم في بيت بطرف الحارة، بيد أنه يشارك بين الفينة والأخرى أهل الحارة مناسباتهم، مكرراً عبارته: ما أحنا شي!
مرت الأيام، واستيقظت حارتنا ذات صباح على أناس أغراب يسألون عن الرجل، الذي اتضح أنه من بدو الصحراء، هجَرَ قبيلته التي لا تنتهي حروبها ضد القبائل الأخرى من أجل الكلأ والماء، وفقد في تلك الحروب أغلب أهله.
فلم تكن عبارته: (ما أحنا شي) من فراغ!
***
(4): حكاية (مسجد الحارة)
لن أخوض في التباين اللغوي بين مسجد وجامع، يكفي معرفة أن في حارتنا مسجداً تتملكني الطمأنينة عند دخولي إلى صرحه، طمأنينةً لا أجدها في الجوامع الأخرى الكثيرة المشيدة في حارتنا.
فكرتُ كثيراً في سبب ذلك، فوجدتُ أن هذا المسجد صغير الحجم، له ميكرفون هادئ لا يتجاوز صوته محيط المسجد بمسافات شاسعة، كما يحدث في جوامع أخرى..
وكذلك لا تجد في هذا المسجد بهرج الجوامع الأخرى، ولا صخبها، فهو مجرد بناء يشبه غرفة منزل متميزة بالمحراب في مقدمتها، وهذا مكان الصلاة، وللبناء فناء مسقوف بألواح من الزنك، ومفروشة أرضيته، حيث يطيب للمرء الجلوس فيه انتظاراً للصلاة أو في حالة الخلو منها، إضافة لذلك ملحق بأماكن الوضوء..
ويكاد يسع حجم المسجد الصغير مَنْ يرتاده من أهل البيوت التي حوله في الحارة، وعموماً ليس المصلون كثيري العدد في جوامع هذا الزمان!
إذ إن وجود ثلاثة صفوف من المصلين في أي فرض يعتبر أمراً قياسياً، هذا باستثناء صلاة الجمعة التي تُقام في الجوامع وليس المساجد، كما هو حال مسجدنا هذا.
إنني أجزمُ أن بساطة هذا المسجد منبعثة من روح هذا الدين الحنيف، فهو دين بسيط، ولا أخاله بالتعقيد الذي تُظهره لنا طوائفنا وفرقنا الدينية المتعددة والمتباينة، وبسبب هذا التباين في فهمها للدين، خاضت كل حروبها الفكرية وما تزال تخوض حتى اليوم!
***
وتستمر الحكايات..