من دروس ترامب... في الحاجة للديمقراطية
المشهد الأخير في دراما السنوات الأربع الأميركية العجاف الماضية كان سرياليا بامتياز، أخرجه مخرج حاذق، إذ ينتهي الرئيس المستبد الأخرق بالدعوة لانقلاب عسكري وفوضى، يحدث هذا في أكبر وأهم دولة في العالم، ليكشف لنا جانبا من إشكالات الديمقراطية التي تسلل دونالد ترامب عبر ثغراتها للمكتب البيضاوي، لكن بالمقابل فإن الميكانيكيات الديمقراطية التي مكنت الناخبين من التخلص منه أو تخليص بلدهم منه، تؤكد الحاجة الماسة للديمقراطية كأداة وضمانة للحكم الرشيد.
ولعل من أسخف ما كان يمكن سماعه خلال أزمة ترامب والفوضى اللاخلاقة التي حاول افتعالها جراء هزيمته في الانتخابات، هي تلك الأصوات من الإعلاميين والكتاب المناصرين للأنظمة العسكرية والمؤيدين لنهجها المستبد في قمع وقهر الشعوب وإبادة المعارضين، مدللين على ذلك بأن الديمقراطية الأميركية جرّت على الأميركيين الفوضى والخراب، فماذا فعلت الديمقراطية، يتساءلون؟!!
إن أبلغ رد على إعلاميي ذلك التيار المناصر للاستبداد والخادم في بلاطه هو من وحي التجربة الأميركية ذاتها، فذلك النظام الديمقراطي الذي نفذ ترامب عبر ديناميكياته لسدة الحكم، هو ذاته الذي مكّن الناخبين من التخلص منه، فمن ميزات النظم الديمقراطية وجود ما يمكن وصفه بمناعة داخلية فيها، هذه المناعة تجنب البلاد الانزلاق للانقلابات العسكرية، كما تمنع المستبدين أو الحمقى من البقاء في الإدارة والحكم لعقود دون أن تتمكن الجماهير من تغييرهم، فكم ترامب عربي يرزح شعبه تحت حكمه منذ أربعة أو خمسة عقود يذوق ويلات الاستبداد والظلم والقهر ويعاني صنوفا مختلفة من القهر، يريد إعلاميو الاستبداد إقناعنا بأن الصبر عليها أفضل من "ويلات الديمقراطية" وأن هذا المستبد هو صمام الأمان والاستقرار، فيما الحقيقة أن الديمقراطية هي الضمانة الحقيقية للاستقرار، وهي التي تشعر الفرد بأنه في دولة مواطنة، وليس عبدا شاءت الأقدار أن يُسترق عند هذا المستبد أو ذاك.
من وحي التجربة الترامبية، وعقلية ترامب العنجهية العنصرية الأنانية، يمكن تفكيك السر الذي أحاط بعلاقته المتينة مع بعض الحكام العرب، ومدحه لحاكم مصر متغزلا فيه باعتباره ديكتاتوره المفضل
هناك في مصر من ينتقد الديمقراطية، ولربما يتحدث من أستديو يدفن بالقرب منه ضحايا الانقلاب الذي حصل على الديمقراطية فيها، فكل عيوب الديمقراطية لا يمكن مقارنتها بكارثية وخسائر الاحتكام للانقلابات العسكرية، هذا لا يعني أنه لا يمكن بطبيعة الحال انتقاد أميركا وديمقراطيتها وانتقاد أي نظام ديمقراطي، لكن أن يخرج هذا النقد من أشخاص وإعلاميين لم تعرف دولهم ولا هم يوميا الديمقراطية بل هم يعادونها، فإن هذا أمر لا يستقيم، بل هو الجهل عينه.
إن الديمقراطية في أميركا وفي كل الديمقراطيات الأخرى هي بوليصة تأمين ضد الانفجارات السياسية والاجتماعية، وهي الوحيدة التي تضمن نظام حكم معقولا ومجربا من شأنه أن يحافظ على الحقوق، ويوضح الواجبات، ويُشعر المواطن بأنه مهم وليس رقما، وأن الدولة هي كيان للجميع وليست ملكا لهذا الحاكم أو ذاك.
ومن وحي التجربة الترامبية، وعقلية ترامب العنجهية العنصرية الأنانية، يمكن تفكيك السر الذي أحاط بعلاقته المتينة مع بعض الحكام العرب، ومدحه لحاكم مصر متغزلا فيه باعتباره ديكتاتوره المفضل، فتعيين ترامب زوج ابنته وابنته في مناصب حكومية، هو أمر يشبه معظم التعيينات التي يجريها الحكام العرب، والقائمة على علاقة القرابة والمحسوبية والولاء الشخصي، كما أن إعلاء ترامب من مصالحه الشخصية وصفقاته التجارية على مصالح البلد هي صفة أخرى يتقاطع فيها مع كثير من الحكام العرب.
العالم العربي بتقديري في أمس الحاجة للديمقراطية، ففيه عشرات الترامبيين من القادة المستبدين النرجسيين العنصريين بجيوش عقيدتها القتالية أن الشعب مصدر التهديد الوحيد، هؤلاء الحكام لم يبقوا في دولنا صناديق للاقتراع لأنهم اختطفوها واختطفوا نتائجها مبكرا، صادروا كل شيء، الكلمة والرأي، وجرموا حتى الصمت، إنهم أكبر مهدد للأمن القومي العربي، وللإنسان والطبيعة.