من علي الكسار إلى عوالم الغموض
ضاق الحال بالعم عثمان، لاحقته الديون من كل جانب، وبعد جهدٍ جهيد أوقع القدر بين يديه عصا، لعبت دور الساحر في حياته، لم يتطلب الأمر منه حينها إلا أن يهمس "يا سحلوب يا دحلوب.. هات المطلوب"، ويُلبى طلبه في غمضة عين، وانتعشت دنياه ولعب الزهر، مع خالص الاحترام للفنان اللوذعي أحمد شيبة.
بعد فيلمه "ألف ليلة وليلة 1941"، لكن ما لم يخطط له عثمان (علي الكسار) أن يعاد إنتاج فكرته، لا سيّما في عصر الإنترنت المتسارع الخطى، لكن هذا ما حدث بالفعل قبل عامين، إذ أخذنا المخرج الفرنسي كريستيان فولكمان في رحلة خاطفة، وقدّم لنا مادة فيلمية ابتعدت عن عفوية عثمان وسذاجته، وكثّف لنا جرعة من الغموض والتشويق في فيلمه "الغرفة 2019".
ينتقل الزوجان مات وكيت إلى منزل جديد، وعقب تكرار انقطاع الكهرباء يبحث الزوج عن السبب، يصل فني الكهرباء ويخبره أن العطل صعب التحقق منه، ويمرر له معلومة غير متوقعة، مفادها أن الناس ترفض شراء هذا البيت أو استئجاره؛ لأن أصحابه القدامى قُتلوا في حادث غامض. لم ينم مات ليلته، بحث عن الجريمة على شبكة الإنترنت، وعلم أن القاتل -واسمه جون دو- يقبع في مصحة عقلية، وقرأ شيئًا من تصريحات القاتل وملابسات القتل. لم يخبر مات زوجته بما عرفه، ويتنقل بين غرف المنزل.
تعيش كيت حالة من الهلع والضغط النفسي، تحاول أن تعيد الزمن للوراء، وأن تقاوم إغراء الغرفة السحرية، وألا تستسلم لما فيها من بهرج
بالصدفة وصل الزوج إلى غرفة لها باب فولاذي ومفتاح غريب الشكل، دخلها بدافع الفضول ليس إلا، وبينما يحدث نفسه بشيء يتمناه في هذه اللحظة، إذا به يجده أمامه. استولى عليه الذكر بدايةً، ثم أدرك أن الغرفة تحقق الأمنيات، طلب أشياء كثيرة وتحققت له، أخبر زوجته بأمر الغرفة وشاركته الأماني والدهشة، وأفادا من هذه الغرفة السحرية.
ولأن الإنسان مجبول على الطمع، فقد تمادى الزوجان في طلباتهما، لم ينتبها إلى أنه لكل فعل رد فعل (وفق قوانين الفيزياء)، وأن اللذة يقابلها ألم وضريبة تُدفع ولو بعد حين. في غمرة النعيم الجديد، يحاول مات إقناع كيت بمحاولة الإنجاب، تجربتها مع المسألة مؤلمة، فشلت مرارًا في تحقيق هذه الأمنية العزيزة على قلب كل فتاة، وبعد نقاش صاخب قررت أن تستعين بصديق.
في الحقيقة، استعانت بصديقة -لا صديق- لم تخذلها من قبل، دخلت الغرفة وتمنت الطفل، وما هي إلا ثوانٍ حتى وجدته بين يديها. اعترض مات على هذه الطريقة في الإنجاب، ما المشاعر التي يُكنها أبوان لطفل جاءهم عرضًا؟ لماذا لا يحاولان الإنجاب بالطريقة الطبيعية؟ تصاعدت حدة الخلاف للمرة الثانية، وحاولت الزوجة الخروج بالطفل إلى الحديقة بعيدًا عن زوجها الغاضب. انكشف جزء من المستور، جزء علمه الزوج سلفًا ولم يطاوعه لسانه في مشاركته مع زوجته، كل ما في الغرفة صالح للاستعمال داخل البيت، وفور خروجه منه يشيخ ويتحول إلى تراب.
خرجت بالطفل فإذا به يتشنّج ويكبر، ومع صرخاته هرول الزوج وأخذها والطفل إلى الداخل؛ لتبدأ مرحلة جديدة من المفاجآت، ويعود مات إلى تفاصيل قضية مقتل أصحاب البيت، ويُصعق حين يقرأ كلمات دو "الغرفة ساعدتني على ذلك". يتواصل مات مع دو في المصحة العقلية، وتتكشّف له ورقةٌ أخرى، إذ إن خروج الطفل من البيت دون أن يشيخ مرهون بقتله مات وكيت، فالعلاقة بينه وبين والديه المفترضيْن علاقة تهديد حياة، يجب أن يموت أحد طرفيها ليعيش الآخر، هذا ما أغرى دو بقتل أصحاب المنزل القدامى.
دو نفسه كان طفلًا من هِبات الغرفة، اتفق أصحاب المنزل القدامى مع مات وكيت في عدم القدرة على الإنجاب، وجاء دو وقتل المُلّاك القدامى، والطفل الجديد "شين" سيعيد الكرَّة، والتخلص منه لم يعد مجرد خيار. ثمة قرارت لا يمكن التراجع عنها، ولا بد من المواجهة مهما كانت الخطورة.
تعيش كيت حالة من الهلع والضغط النفسي، تحاول أن تعيد الزمن للوراء، وأن تقاوم إغراء الغرفة السحرية، وألا تستسلم لما فيها من بهرج، ولات حين عودة. يتخلص الزوجان من شين، يشيخ أمام ناظريهما ويتحلل، ويظنان أن الكابوس قد انزاح عن كاهليهما، ينتقلان من البيت إلى سكنٍ مؤقت تمهيدًا لمغادرة المدينة بأسرها، وتأتي مفاجأة لا تقل هولًا عن سابقاتها، إذ يُظهر اختبار الحمل المنزلي أن كيت حامل، ليست من زوجها، بل من طفل الغرفة (شين)، ما يشير إلى تواصل التهديد لها ولزوجها.
تكررت كثيرًا في السينما الأفلام التي تتناول المعيشة في منزل مهجور، وتلاحق الأحداث في هذا المكان بما يُنغِّص حياة النزلاء الجدد، خصوصًا وأنهم لا يعلمون عن ملابسات المكان شيئًا. إن عُدَّ فيلم علي الكسار "ألف ليلة وليلة" مناسبًا لعصره، في وقت كانت أحاديث المساء يشوبها التعريج على الغول والعنقاء والجنيّة والنداهة والعفاريت؛ فما الذي يجعل فئة أفلام قريبة الصلة بها رائجة في عالم الإنترنت وتكنولوجيا العصر الرقمي؟!
هذا مثال آخر يدندن على الوتر ذاته، ويطارد الشبح في البيت الجديد رجلًا له ماضٍ، ففيلم "كان عليك الرحيل You should have left 2020"، يدور في فلك رعب نفسي وغموض، وأن أعمال المرء أداة إدانته ولو بعد مدة طويلة. تحظى اليوم أفلام الغموض بقبول متزايد، حتى وإن تناولت أمورًا خارج نطاق المألوف، وتقلّصت مساحة السذاجة التي كتب بها سرفانتس دون كيخوته، والتي استثمرها الكسار في سحلوبه ودحلوبه، وتلك طبيعة الحياة دهشة ثم تقبل يعقبهما زهد -وربما نفور- وبحث عن جديد.