من يعيد للناس ذكرياتها؟
"بالحجر ولا بالبشر"، هكذا نقول في لبنان عند أيّ مصيبة.
لطالما استوقفتني هذه العبارة واستفزّتني. فيها استخفاف كبير بالمعاناة، وتحجيم لهول الكارثة. كما أنني أرفض أيضاً تسمية ما يحصل في لبنان منذ سبتمبر/أيلول 2024، بالعدوان الإسرائيلي الموسّع، وكأنّ ما حصل قبل هذا التاريخ غير ذي قيمة. منذ أكتوبر/تشرين الأوّل 2023، يتعرّض لبنان لعدوان إسرائيلي ممنهج، ولو تأخر "توسيعه"، أو بالأحرى الكشف عن حقيقة أهدافه.
في جنوب لبنان، هذه البقعة البعيدة عنا نحن سكان قرى جبل لبنان، شاهد السكان منازلهم تُقصف الواحد تلو الآخر، أراضيهم تُنسف الواحدة تلو الأخرى، وذكرياتهم تندثر شيئاً فشيئاً.
ستنتهي الحرب طبعاً، لكنّ أحداً لن يعيد للناس ذكرياتها
ذكرياتنا جزءٌ منا نحن كبشر، وصحتنا النفسية جزءٌ مهم منا أيضاً، وليس هامشياً، كما يعتقد كثر. قبل يومين، خسر أحد الأصدقاء منزل أهله في الضاحية الجنوبية لبيروت. المنزل الذي عاش وكبر فيه، قبل أن يتزوج ويغادر إلى منطقة الشياح التي تهجّر منها أيضاً خوفاً على حياته وحياة زوجته الحامل بطفلهما الأوّل. قال عند خسارة منزل الأهل: "ابني ما رح يشوف بيت جده". هذا المنزل الذي سقط بفعل القصف الإسرائيلي، واحترقت معه ذكريات العائلة المحفوظة في كلّ زاوية من زواياه. بقيت في المنزل صور العائلة، وثيابهم، وأغراضهم الشخصية، والمفروشات. هم فقط من خرجوا منه، لكنّ ماضيهم، ويومياتهم، وأحاديثهم عند فناجين القهوة، وتفاصيلهم الصغيرة، كلّها بقيت هناك. أليست هذه التفاصيل الصغيرة هي التي تصنعنا ولا شيء أكثر؟
ستنتهي الحرب يوماً ما، قد تنتهي غداً، أو ربما بعده، وقد تستمرّ إلى أجل طويل، لكنّ شيئاً لن يعود كما كان. في بيوت الجنوب، والضاحية الجنوبية لبيروت، والبقاع وسهله، ذكريات رسمها السكان، ورسمناها نحن الذين كنا نلجأ إلى هذه المناطق بحثاً عن فسحة راحة.
ستنتهي الحرب طبعاً، لكنّ أحداً لن يعيد للناس ذكرياتها.