ميناء بايدن في غزة وغياب العرب!
تدخل حرب إسرائيل على غزة يومها الستين بعد المئة، وسط كارثة إنسانية وإبادة مستمرة للقطاع وسكانه، جنباً إلى جنبٍ مع عجزٍ إسرائيلي عن إنهاء المقاومة، أو تحقيق "أهداف الحرب".
الغائب الأكبر في حرب الإبادة هم العرب، وكأنّ هذه المنطقة التي تقصف فيها إسرائيل، شمالاً وجنوباً، خالية من السكان الأصليين، خالية من العرب الذين هم الأمة التي تقطن هذه الجغرافيا التي زُرعت فيها إسرائيل عبر أكبر عملية سطو مسلّح على أرضٍ لشعبٍ موجود، ووضع اليد عليها بالقوة الغاشمة والتواطؤ والمشاركة الدولية.
فكيف يمكن لبنيامين نتنياهو أن يواصل قتل وتجويع وإبادة الشعب الفلسطيني في قطاع غزّة وعموم الأرض المحتلة، وقصف لبنان وسورية، وهو يقود كياناً غريباً تماماً عن المنطقة، متناقضاً مع لغتها ودينها وهويتها وحضارتها، لا يشبهها في أيّ شيء، وإنّما القاسم المشترك بينه وبينها أنّه عدو لها، وأطماعه تمتد لكلّ بلدانها، ومع ذلك يُسمح له بالاستفراد بشعبٍ عربي تُحيط به الدول العربية والإسلامية من كلّ جانب. بل، وللأسف تشارك معه وتسانده دول عربية باتت على قناعة جدية بجدوى التحالف معه ضد الشعب العربي الفلسطيني الذي يخوض منذ مئة عام حرباً ضروساً مع هذا المشروع الصهيوني الذي لا يستهدف فلسطين خاصة، وإنّما تطال أطماعه كلّ الوطن العربي والإسلامي. كما أنّ تلك العلاقة والتواطؤ والمشاركة المباشرة لخّصها مشهد نتنياهو، وهو يوجّه حديثه للحكام العرب: "إذا أردتم البقاء في كراسيكم عليكم فعل شيء واحد: التزام الصمت".
تضرب المجاعة كلّ أرجاء قطاع غزة الذي تحدّه أكبر دولة عربية!
ورغم نزول الولايات المتحدة بكلّ ثقلها السياسي والعسكري والمادي مع إسرائيل في حربها على أطفال ونساء غزّة، فإنّ الحرب تدخل شهرها السادس مع تعثّر في إنجاز الأهداف، باستثناء كما أشرنا لتدمير القطاع، ولقد تجلّى النفاق الأميركي وازدواجية الخطاب في غزّة، كما لم يتجلّ في أيّ مكان آخر، ففي الوقت الذي تزوّد فيه أميركا إسرائيل بالطائرات والقنابل والأسلحة التي تقتل بها الغزّيين، تلقي الطائرات الأميركية "مساعدات" لأهل القطاع في مشهد سوريالي يجسّد كيف تحوّلت دولة عظمى إلى خصمٍ لعزّلٍ محاصرين منذ 18 عاماً، وجوعى للشهر السادس على التوالي، وكيف تَجسّد الضعف والتواطؤ العربي في أسوأ أشكاله، إذ يموت الأطفال في المستشفيات من الجوع، وفي الطرقات، وتضرب المجاعة كلّ أرجاء القطاع الذي تحدّه أكبر دولة عربية، وتراقب موته بعجز أمة حوّلت رمضان من شهر الجهاد لشهر الطعام والسهر والكلام.
ليس صحيحاً أنّ الدول العربية عاجزة، وإنّما لا تريد ممارسة أيّ ضغط، لأنّ ثمّة مقاربة لديها بأن القضاء على المقاومة (أيّة مقاومة) هي مصلحة لها، كما تعوّل تلك الدول في رغبتها الكامنة (وربما الظاهرة لدى بعضها) في إنهاء ظاهرة "غزة"، على إجهاض أحلام شعوبها بالتحرّر والانعتاق من الاستبداد، فالاحتلال والاستبداد وجهان لعملة واحدة، هذا من جهة.
ومن جهةٍ ثانية، لا أحد يود إزعاج أميركا التي قالتها صراحة منذ اليوم الأول عبر جلب بوارجها وقطعها العسكرية بأنّ هذه حربها، وأنّ من يعطّل مهمة إسرائيل في إبادة غزة وسكانها، فإنّه يغامر بتحدّي إرادة أميركا. لكن يبدو أنّ واشنطن كانت تراهن على أنّ تل أبيب ستنهي "المهمة" في أسابيع قليلة، وربّما شهر أو اثنين، إلا أنّها فوجئت بمقاومة الشعب الفلسطيني وصموده، فتغيّرت الخطط من إنهاء الحرب إلى إدارتها بهدف استدامتها.
المعبر البحري محاولة أميركية لصرف الأنظار عن الجريمة الجديدة التي تخطّط إسرائيل للقيام بها في رفح
وهنا نصل لممر واشنطن البحري، وهو محاولة أميركية لصرف الأنظار عن الجريمة الجديدة التي تخطّط إسرائيل للقيام بها في رفح، فكما حاولت أميركا صرف الأنظار عن حرب الإبادة منذ اليوم الأول بترديد عبارات فارغة من مثل: "اليوم التالي"، "التأكد من حماية المدنيين"، "حل الدولتين".. تقوم الآن بالحديث عن "ممر بحري"، بهدف إعطاء إسرائيل مهملة إضافية لاستكمال حربها. علماً أنّ الأمر أبسط من ذلك بكثير، فمكالمة هاتفية جادة من جو بايدن لنتنياهو وأمر بفتح كلّ المعابر لتدخل الشاحنات وتنتهي كلّ القصة، كافية، دون الحاجة، لجلب جنود أميركيين، ولا لبناء رصيف ولا لميناء.
الرصيف، أو الميناء الذي تتحدّث إدارة بايدن عنه يهدف إلى جملة أهداف تصب في صالح الاحتلال، وكلّ مقاربات أميركا عموماً منذ اليوم الأول لهذه الحرب المجنونة تأتي في سياق تقديم التسهيلات لعدوان إسرائيل وضمان تواصله بالوتيرة ذاتها، مع بعض التحسينات الضرورية لصورة واشنطن، ويمكن تلخيص أهداف ذلك الميناء المنوي إقامته بالتالي:
أولاً، إطالة أمد الحرب عبر ذر الرمال بالعيون، وإظهار أنّ الحرب لا تعوق المساعدات للتعامل مع الضغط الدولي المطالب بوقفها لإدخال المساعدات.
ثانياً: الميناء هو بديل عن معبر رفح الذي تخطّط إسرائيل لإغلاقه تماماً، وربما ستتماهى القاهرة مع هذا، رغم أنّه يضر بمصالحها، لكن ثمّة حسابات أخرى للنظام هناك، في ظل أزمته الاقتصادية، وارتهان قراره للخارج ولداعميه.
ثالثاً، فتح بوابة الهجرة والتهجير.
رابعاً، محاصرة المقاومة، ونزع أيّ شرعية مدنية لها، واعتماد جهات أخرى لتسلُّم تلك "المساعدات".
خامساً: ربّما غاز غزة هو المستهدف، فكما استحوذت أميركا على نفط سورية واقتطعت حصتها بعد كلّ الدمار الذي جرى، يسيل لعابها على غاز غزة.
هذا ما يُخطّط له، ونجاحه ليس مؤكداً، كما أنّ إفشاله يتطلب قيادة فلسطينية موّحدة وواعية، وبحجم جريمة القرن المستمرة.