هاجر... أنت لست شجرة
تُفتحُ هذه الأيام قرعة الهجرة إلى أميركا، لتشرع أبواب الحديث عن أوجاع الوطن التي يخفيها عدد المسجلين الذين يئسوا من اليأس فتشبّتوا بعبارة "لقد تم اختيار اسمك" كنافذة لاستنشاق أريج الأمل؛ هنالك عند معمري بلاد العم السام.
صديقي ياسين اسم مسجل ليكون فرداً من شعب العالم المختار، بالرغم من أنه موظف لوزارة في بلده الأم. ما يعني أنه لم يترك للعاطلين تعليقاً على الوضع سوى السكوت الذي لا يدلّ على الرضا بتاتاً. أما هو فكان قد حدثني باقتضاب ومرح عن حكاية آليس في بلاد العجائب التي قرأها، ثم بسرعة قطّب جبينه بغضب كأنه ممثل يجيد اللعب بملامحه جيداً، قائلاً: "كثيراً ما تذكرني هذه القصة بواقع أكثر مأساوية عنوانه اليأس في بلاد المغارب". قالها وهو يملأ استمارة الهجرة.
أشرتُ موافقاً أنّ هذا الهدف التيئيسي بات مشروعاً متكامل الأركان، له موظفوه المرتدون بزات رسمية وأنيقة يبتزون بها العباد وربطات عنق تخنق أعناقهم؛ كما تخنق أرواح الذين يأتون لقضاء مصالحهم اليومية. خذ مثلاً هذا النموذج: فلا يوجد مواطن لم يتعارك مع موظف المقاطعة من أجل وثيقة بسيطة تحتاج الاستخراج أو الإمضاء. موظفو المطارات والجمارك وحدهم يضحكون في وجه العائدين إلى الوطن.
عمله الممتد لسنوات لم يكفه لسداد ديون المستشفى لإنقاذ والدته من الثمن الباهظ لتصفية الكلى
قد يعترض قائل بأنّ هذه تفاصيل صغيرة تافهة لا تعبّر عن جوهر البلاد، الذي بنى أكبر محطة للطاقة وأكبر مسرح في أفريقيا. أقول إنّ الوطنية هي التفاصيل الصغيرة. كما أنّ الشيطان يسكن تلك التفاصيل. فلا قيمة لوطنية كأنها فقاعة في مباراة المنتخب الوطني تمتد لتسعين دقيقة وتنفجر بصافرة الحكم في مقابل مواطن بسيط لم يجد علاجاً في مستشفى خُصصتْ أمواله لدفع راتب مدرب.
ياسين هو مثال حي لهذا الانفصام الغالية تكلفته. فعمله الممتد لسنوات لم يكفه لسداد ديون المستشفى لإنقاذ والدته من الثمن الباهظ لتصفية الكلى؛ فما بالك أن يسمح له بالعيش الكريم.
إننا في بلاد كأننا داخل حلبة ملاكمة نقضي فيها الجولات التي قد تمتد سبعين عاماً رافعين أيدينا للدفاع دون أي لحظة هجوم، لتنتهي المباراة بارتخاء أذرعنا وبالتالي تلقي وابل من اللكمات من البنوك الافتراسية وأسعار المحروقات والعيادات الخاصة، مجتمعة وزيادة تتكاثف لتترك كدمات لا تنفع معها المراهم أو عمليات التجميل الترقيعية الموقعة من طرف حكومة تترك رعيتها عارية حافية أمام الضربات.
بعد ذلك كيف يريدنا ألا نندد بظلم كهذا، ألا ندينه وألا نردّ له الدين مضاعفاً ونحن أولاده وأولياؤه. ثم كيف لا نهاجر ونرتد عن حب هذا البلد كي نرتمي في أحضان العالم الجديد لا لنصبح علماء أو رجال أعمال، بل لنفرح باستخراج وثيقة من إدارة ونقوم بتصفية الكلى المريضة بأمان، ومعه تصفية القلوب من شوائب عيش مضنٍ إلى أقصى حد.