هزليات السياسة الأسدية (29)
هناك مثل شعبي سوري يقول "كثرة العز بَهْدَلة".. وهو مبني على مَثَل شعبي آخر يدعو إلى الاعتدال هو: "الزائد أخو الناقص".. من هنا راودني اعتقادٌ بأنه قد يأتي قارئ فهيم "أكثر من اللازم" وينتقد الحكايات الأخيرة التي ننشرها في مدونة "إمتاع ومؤانسة" قائلاً إننا نتحدث في أشياء تافهة، مثل الموتوسيكلات والطريزينات، وإن المطلوب منا أن نرفع المستوى.
عندما قلت هذا الكلام في مستهل السهرة علق صديقُنا أبو زاهر بقوله:
- في كمان مَتَلْ شعبي بَدَوي بيقول: شرطْ الحاجة إنها تعجبْ أهلها.. يعني نحن اللي عم نسهر هون معجبين كتير بسيرة الطرطيرات والموتوسيكلات، منشان هيك عم منحكي فيها، وخلي الرجل اللي عنده ذكاء زائد يبعزق ذكاؤُه في مكان تاني.
قال كمال: أولاً، الفلاحين في مناطقنا بيستخدموا الطرطيرات لنقل المحاصيل الزراعية، لأن تكلفة اقتناءْها وتشغيلْهَا أقلّْ من تكلفة البيكآبات الزراعية، وتانياً نظام الأسد كان عامل حظرْ على استيراد السيارات والشاحنات، منشان هيك الناس لجؤوا لتصنيع الطرطيرات حتى يسدوا حاجتهم لوسائل النقل، وتالتاً، وهادا هوي المهم، سيرة الطرطيرات بتعطي لصديقنا أبو الجود فرصة إنه يحكي، فلو حكينا اليوم عن تقنيات استخدامْ الأقمارْ الصناعية في تأمين تغطية مناسبة للاتصالات اللاسلكية كنت شفت أبو الجود عم يزحف شوي شوي باتجاه الباب، وبالأخير بيقول: قَدّْ ما كانتْ السهرة مع أم الجود صعبة وكئيبة بتبقى أرْحَمْ من السهرة مع ناسْ عَمْ يحكوا عن الأقمار الصناعية!
قال أبو ماهر: اللي فهمناه من الحكاية اللي رواها أبو الجود في السهرة الماضية هوي التالي: أبو الجود أخد ورقة من العميد قائد الشرطة، وراح ليستلم موتوسيكل مصادَر من كاراج الحجز، وهنيك بَلَّغُه مدير الكراج إنه الموتوسيكلات المصادرة نفقت، يعني ما عاد فيه عنده منها.. يا ريت يحكي لنا أبو الجود أيش صار معه بعدين.
قال أبو الجود: أنا يوميتها رجعت على شعبة الحزب، ودخلتْ عَ البوفيه، وعبيت الركوة مَيّْ، وسَخَّنْتْهَا، وجبتْ الورقة اللي عطاني إياها قائد الشرطة "أبو عزام"، وحطيتها بكاسة، وصبيت عليها مي ساخنة.. ولما شافني رئيس الشعبة قاعد عم إتأمل الكاسة والحبر عَم يحل في قلبها قال لي: أشو عم تساوي يا أبو الجود؟
قلت له: هادا رئيس كراج الحجز لما شاف الورقة اللي عليها توقيع الرفيق أبو عزام قال لي (روح انقعها واشربْ ميتها)، وهلق أنا نقعتها وعم إنتظر حتى تبرد منشان إشرب ميتها!
ضحك أمين الشعبة، واتصل بـ أبو عزام، وحكى له عن الشي اللي أنا عملتُه، ووقتها سمعت أبو عزام عم يتضحك وقال لأمين الشعبة: ابعت لي هالمنحوس لعندي ع القيادة!
قال أبو جهاد: ما شا الله، نحس أبو الجود اكتسبْ سمعة عالمية، حتى قائد الشرطة صار بيعرف إنه منحوس.
قلت: النحس تبع أبو الجود متل الحقائق العلمية، ما في جدال حوله.
قال أبو الجود: أي والله صحيح. المهم أنا لما سمعت الحكي اللي قاله أبو عزام حطيت الصينية ع الطاولة قدام أمين الشعبة وطلعت من الشعبة متل البرق، ورحت سحبة وحدة على قيادة الشرطة.. ولما وصلت لباب أبو عزام لقيت في ناس كتير واقفين. قلت للحاجب: أنا أبو الجود.
فقال لي: إنته المنحوس تبع شعبة الحزب؟
قلت له: أي نعم.
قال لي: ادخول فوراً، "المعلم" منتظرك.
وأنا من شدة غشمي حطيت إيدي على مسكة الباب، وبدي إدخل، ما شفت غير تنين من عناصر الشرطة، متل الأباعر، هجموا علي، وواحد مسكني بإيديه التنتين، وواحد دفشني، وبعد شوي لقيت حالي جوات غرفة زغيرة، وصاروا يفتشوني. في واحد منهم قال لي:
- تضرب في شكلك، يعني إذا المعلم طالبك ووافق يقابلك إنته بتدخل لعنده متلما لما بتدخل عَلى "خان البَرْنوطي"؟ (خان دواب شهير في مناطقنا).. ولك هادا قائد شرطة يا طشم.
قلت له: عفواً، أنا بأيش غلطت؟
قال لي: بدك تدخل بدون تفتيش، طيب بلكي كان معك سلاح وعملت حالك قبضاي وقتلتُه للمعلم؟
بوقتها أنا ضحكت، وهوي ظن إني عم إضحك عليه، فلكزني بحنكي وقال لي: ضحكة عنزة في مسلخ، والله لولا إنه المعلم طالبك لحتى خليك تبكي بدل الضحك..
قال أبو جهاد: يعني إنته ما ضحكت من كلامه؟
قال أبو الجود: كلامه ما بيضحك، لأنه علاك حاشاك، أنا ضحكت لأنه أثناء التفتيش صار يدغدغ خواصري!
قال أبو زاهر: كل واحد من المسؤولين في سورية إذا بيحمى المَزَادْ ما بينباع بربع ليرة، ومع ذلك بيضلوا خايفين ما يدخل لعندهم حدا ويكون معه سلاح ويغتالهم.. وعلى فكرة ضباط المخابرات أسوأ من ضباط الشرطة، اللي بيدخل لعندهم بيحطوا له طماشة على عيونه، حتى ما يشوف وجوههم. على أساس إنه شوفتهم بتسر القلب. (وقال لأبو الجود): المهم بعد هالمسخرة دَخَّلُوك لعند قائد الشرطة؟
قال أبو الجود: نعم. دخلت لعنده. ورحب فيني، وقال لي: اقعود. قعدت. طلب لي قهوة. وما حكى معي شي لبعدما دخل الآذن وحط فنجان القهوة قدامي. وبعد شوي دخل رئيس كراج الحجز، وضرب للعميد أبو عزام تحية وقال له:
- مشي الحال سيدي. إذا بيجي هادا المنحوس لعندي بكرة الصبح فيني أسلمه موتوسيكل مصادَر.
قال له العميد: طيب روح إنته على شغلك.
بعدما طلع رئيس كراج الحجز طلب مني العميد إني أدوق القهوة اللي عاملها الآذن تبعه وأعطيه رأيي فيها. أنا بصراحة لما دقت القهوة ما عجبتني.
سألني: شلون القهوة؟
قلت له: كتير طيبة.
هون العميد تصرف بشكل كتير غريب. شال الخرازة من عَ الطاولة وضربني فيها، وأنا بعدت وجهي من طريقها فنزلت في قلب خريطة مبروظة بلوح بلور، لوح البلور انكسر، وأنا وقفت من دون ما أكمل شرب القهوة وقلت له:
- خليني أروح ع الشعبة، ما عاد بدي موتوسيكل مصادر.
قال لي: أي روح بالجهنم اللي تسلقك.
قلت له: بس حابب أعرف ليش ضربتني؟
قال لي: لأنك لما دقت القهوة وجهك كَشّ، وبَيَّنْ عليك كأنك ممغوص ولازم تدخل عَ المرحاض، ومع ذلك قلت لي القهوة كتير طيبة. يلعنك كذاب. يا الله انقلع من هون.
فانقلعت.
(للقصة تتمة)