هكذا علمني الدكتور محمد عناني
بعدما تخرّجت من قسم اللغة الإنكليزية بكلية آداب جامعة عين شمس، التحقت ببرنامج اكتساب المهارات الأساسية في مجال العمل (Basic Business Skills Acquisition)، الذي كان منحة من جمعية جيل المستقبل (FGF) لشباب الخريجين، وذلك لتهيئتهم لسوق العمل. وفي الواقع، إنني مدينة لهذه المنحة كثيراً، فقد دَرّبتْ كلّ من حصل عليها على مهارات العمل إلى حدٍّ كبير. وأذكر أنّ المدربة الرائعة التي كانت تُدرّب فصلي، كانت تذكرنا دائماً بأننا هنا لاكتساب المهارات، وليس العلم أو المعرفة. وكان من شروط الحصول على شهادة اجتياز هذه المنحة، إيجاد فكرة لمشروع وعمل دراسة جدوى له، وكان فصلنا مكوّناً من 15 خريجاً، ومُقسّماً إلى ثلاث مجموعات، ولكلّ مجموعة فكرة لمشروع ما، وكلّ عضو في الفريق مسؤول عن قسم منه، بناءً على رغبته أو تخصّصه. فمثلاً، خريج كلية التجارة عُهد إليه بمسؤولية دراسة الجدوى وحساب التكاليف، أما أنا فكان دوري ترجمة محتوى المشروع من معلومات استجمعها الفريق عن إمكانية إنجازه على أرض الواقع، وكان ذلك من اللغة العربية إلى الإنكليزية التي سنعرض بها مشروعنا. وهنا، أعجبتني وظيفة المترجمة جداً بعد الانتهاء من المنحة، وأصررت على مزاولتها حتى بعد تلّقي عروض من شركة فودافون وموبينيل (شركات المحمول في مصر حينئذ) بعد ترشيح الجمعية لي.
ورحت أفكر كيف أعمل مترجمة، خاصة أنّ كليتي كانت تدرِّس لنا مادة الترجمة بشكل عرضي على عكس ما لاحظته فيما بعد في قسم اللغة الإنكليزية في كلية الآداب بجامعة القاهرة، حيث إنه يؤهل الطالب لمزاولة المهنة باحتراف، وانتهيت إلى الذهاب إلى الدكتور محمد عناني، مؤلف كتاب "فن الترجمة" الذي اشتريته من معرض الكتاب، الذي أفادني أيّما إفادة، ولامس أهدافي، ليرشدني إلى الطريق نحو مزاولة المهنة.
وذات صباح من عام 2005، قصدت جامعة القاهرة لمقابلة الدكتور محمد عناني، ومن حسن حظي أنه كان موجوداً ومتاحاً، فاستقبلني بترحاب لا أنساه. ولما حكيت له عن أسباب المقابلة، وأنّني أودّ العمل بالترجمة، ردّ علي بنبرة تشجيعية: "وما رأيك في دراسة الترجمة والتدرّب عليها؟". قلت له: "يا ليت، وكيف يتحقّق ذلك؟" فقال: "إحنا هنا عندنا دبلوم في الترجمة، تعالي في شهر أغسطس/ آب لمعرفة موعد اختبار القبول للالتحاق بالدبلوم إن شاء الله".
لما نقلت للدكتور محمد عناني أسفي لافتقار آداب عين شمس الاهتمام بمادة الترجمة مثلما تهتم آداب القاهرة، ردّ عليّ بنزاهة العالم البعيدة عن التعصب لكليته، قائلًا: "لكنهم بيعلموكم كويس!"
ولما نقلت له أسفي لافتقار آداب عين شمس إلى الاهتمام بمادة الترجمة مثلما تهتم آداب القاهرة، ردّ عليّ بنزاهة العالم البعيدة عن التعصب لكليته، قائلًا: "لكنهم بيعلموكم كويس!".
ومنذ ذلك اليوم عرفني الدكتور عناني، ورحب بي عندما التحقت بدبلوم الترجمة وتدربت على يديه، ويدَي غيره من أساتذة نوابغ في الترجمة لمدة عامين كانا من أجمل أيام حياتي فعلاً، وأمتعها، على الرغم من أنّ يومي كان مشحوناً للغاية، فقد كنت أعمل في الصباح وأدرس في المساء؛ إذ كانت المحاضرات تُذهب عني أيّ تعب أو معاناة، وأبرزها محاضرات الدكتور عناني، فقد كان يستحوذ على انتباهي بعلمه وطريقته في ربط الأمور.
وكان رحمه الله لا يبخل بعلمه أبداً أو بخبرته، وكنت أستشيره وأنهل من خبرته حتى بعد انتهاء الدراسة، وقد أعطاني رقم هاتفه.
وأذكر أنه مرّ بأزمة صحية حكى لي عنها على نحوٍ من الرضى لمسني وتأثرت به، فما ملكت إلا أن أدعو له: "أسعدك الله دائماً وأبداً يا دكتور"، فانتبه لي وردّ برجاء عميق: "يا رب يا أسما يا رب"!
كل ما أرجوه للدكتور عناني اليوم أن يسعد بلقاء ربه وبمقعده من الجنة.