هل انتهى عصر روابط "الألتراس" في الوطن العربي؟
يُحسب للرئيس التونسي قيس سعيّد أنّه أماط اللثام، وبشكلٍ صريح، عن العلاقة الشائكة والمعقّدة بين روابط المشجعين أو ما يُعرف باسم "الألتراس" في ربوع الوطن العربي وبين الأنظمة السياسية المتوجسة منها، إذ لطالما كان الصراع بينهما دائرًا من خلف ستارة؛ إلا أنّ سعيّد أعاد فتح هذا الملف مؤخرًا حين صرح قائلًا "الشعارات الرياضية تحتاج إلى دراسة في جامعة العلوم السياسية، فهناك جماهير كانت تصف فريقها بـ"الدولة" فيتم الردّ عليها من الفريق المنافس بـ"يا رشوة"، ما يعني أن الدولة تساوي الرشوة".
هذا الحديث يُعيدنا إلى فترات سابقة، كانت فيها هذه الروابط تقض مضجع السلطات، من خلال اللافتات التي تُزيّن المدرجات أو ما يسمّى "بالتيفو"، لتحتل صدارة الأخبار وتجوب مواقع التواصل الاجتماعي، بما يُوصل رسائل بالغة في الأهمية، تهم قضايا اجتماعية آنية أو شعارات سياسية. كما أنّ فلسطين وعلمها كانا حاضرين في كلّ المدرجات، ليكون علم فلسطين الوحيد الذي يجمع ويوّحد كلّ هذه الروابط مهما بلغت الخصومات بينها. وهنا لا بد من الإشارة إلى أنّ ما يطلق عليه "اتحاد ألتراس العرب" أصدر أغنية مشتركة مؤخراً بعنوان "طوفان الألتراس"، دعماً لغزّة ومقاومتها الشجاعة.
ولعل في الأغنية الساحرة المعبرة "رجاوي فلسطيني" التي أطلقتها جماهير الرجاء البيضاوي المغربي خير دليل على ما تمثله فلسطين لهؤلاء الشباب، وكيف تحوّلت إلى أيقونة غنائية يردّدها الصغير والكبير من المحيط الى الخليج، وقد شاهدنا كيف تفاعل ويتفاعل معها الفلسطينيون، ويحفظون كلماتها عن ظهر قلب.
"اتحاد ألتراس العرب" أصدر أغنية مشتركة مؤخراً بعنوان "طوفان الألتراس" دعماً لغزّة ومقاومتها الشجاعة
وبالعودة إلى تاريخ هذه الروابط في الوطن العربي، فإنّ الحكاية بدأت في سنة 1989، حيث ظهرت لأوّل مرّة في ليبيا تحت اسم "ألتراس دراغون" (التنين)، وكان منتمياً لنادي الاتحاد الليبي قبل أن ينجح نظام معمر القذافي في "وأد" هذا المولود بعد أسبوعين فقط من ميلاده. وفي تونس، أنشأت جماهير النادي الأفريقي مجموعة بعنوان "أفريكان وينرز" عام 1995، ورغم ما تعرّضت له هذه المجموعات المتيّمة بعشق أنديتها من تضييق ممنهج إلا أنّ السبحة كرّت، وبزغت في ربوع الوطن العربي الكثير من الروابط المشجّعة التي نجحت في أن تتخطّى الحدود وتكسر كلّ الحواجز لتصل إلى العالمية، على غرار المجموعات المساندة للرجاء البيضاوي المغربي التي بلغ صيتها كلّ أنحاء العالم، سواء بأغانيها المعبّرة مثل "في بلادي ضلموني" التي جابت كلّ المحطات العربية، ونجحت في توحيد الشعوب العربية في صرختها ضد البطالة والتهميش والحرمان، حتى إنّ العديد من الفنانين في الجزائر وفلسطين وتونس أعادوا طرحها في أغانٍ خاصة بهم؛ كما لجماهير الوداد ورابطتها الشهيرة "الوينرز" إبداعاتها التي يتغنّى بها الصغير والكبير. كذلك، انبهر الجمهور العربي بصرخات جمهور "اتحاد طنجة" التي تناقلتها وسائل إعلام عربية عديدة، وجاءت بعنوان "ولد الشعب" و"بلاد الحكرة" وغيرها الكثير من الأغاني التي تنبض بالغيرة وتنتصر للقضايا المحلية والعربية.
إنّ دور روابط الألتراس في ثورات الربيع العربي، في مصر وتونس بالتحديد، لا يمكن تجاهله؛ ومن هنا نلاحظ كيف سعت الأنظمة المتعاقبة بكلّ قوة لإخماد حماسها، وهناك أسماء عديدة ما زالت تقبع في الزنازين وآخرون انسحبوا من المجال كلياً؛ وبإلقاء نظرة شاملة على باقي البلاد العربية سنجد أنّ بعض الأنظمة نجحت في إسكات أو تغييب تلك الحناجر التي لا تهدأ أصواتها في المدرجات، والتي حلّت محلّ الأحزاب السياسية وشعاراتها المتهالكة العتيقة، حتى إنّ البعض سعى لاستثمار أصواتها في الانتخابات، وهناك دول عديدة عرفت هذا المنحنى.
أغنية "رجاوي فلسطيني" التي أطلقتها جماهير الرجاء البيضاوي المغربي خير دليل على ما تمثله فلسطين لهؤلاء الشباب
المؤكد أنّ هدير الملاعب صار صوته خافتاً في الآونة الأخيرة، وحرمنا من إبداعات المدرجات التي تفوق في أحيان عديدة ما تنتجه أقدام المستطيل الأخضر؛ لكن هذا الملف ما زال جديراً بالمناقشة، بين من يراهم مجرّد شباب تافهين مشاغبين، ومن يتوقف ملياً عند تلك الشعارات التي يحملونها؛ وكيف لفئة "تافهة" أن تستحضر عبارات زاخرة بالحكم، وتنسج رسائل بتلك البلاغة وتطرح أغاني مستلهمة من واقع المواطن العربي المسحوق؟
هذه المفارقة الغريبة العجيبة التي أنتجتها مدرجات ملاعب الساحرة المستديرة، حيّرت العقول وزعزعت السياسيين وألهمت الإعلاميين وسلبت عقول المراهقين ممن يردّدون أغاني هذه الروابط بشكل هسيتري؛ فمن أنتم يا شباب الألتراس؟