هل يمكن مقايضة العدالة بالسلام؟
لطالما أزعجتني دعوات البعض خلال اجتماعات وضع الاستراتيجيات المتعلّقة بالعدالة الانتقالية إلى ضرورة التحلّي بشيء من البراغماتية عند الحديث عن تحقيق السلام، وأنّه يجب علينا الاستعداد لتقديم التنازلات في مجال العدالة أحياناً، من أجل الحصول على هذا السلام المزعوم.
وما زلت أذكر كيف ختم أحد الحكماء أحد هذه الاجتماعات بعد أن احتدّ النقاش، بأنه يتمنى أن لا نصل إلى اليوم الذي نضطر فيه للتخلّي عن العدالة في سبيل تحقيق السلام. وقد قال الأمين العام الأسبق للأمم المتحدة، كوفي عنان، مرّة في سياق النزاعات المسلحة، ما معناه "إذا لم تتحقق العدالة، ولم يشعر الناس بأنه تمّ التعامل مع مظالمهم بجدية، فإنّه من الصعوبة بمكان تحقيق المصالحة". وللأسف، في غمرة محاولات القوى الدولية والإقليمية وقف الحروب والنزاعات المسلحة يتم تجاهل جذور المشكلة وأسبابها الأصلية، ويتم القفز عن العدالة ومظالم الضحايا في سبيل تحقيق أي وقف لإطلاق النار. ولكن التاريخ يثبت أنّ التنازل عن العدالة في سبيل السلام وعدم محاسبة مجرمي الحرب وأمرائها لا يجلب سوى هدناً زائفة مع احتمالات كبيرة لتفجر الأوضاع مرة أخرى، ولو بعد حين.
وهنا، تظهر أهمية فكرة العدالة الانتقالية كمنهج قانوني يجب الالتزام به قبل الحديث عن أي سلام، منهج يهدف إلى معالجة الجرائم الجماعية وانتهاكات حقوق الإنسان التي ارتُكبت خلال فترات النزاعات والحروب، وتحقيق العدالة والإنصاف للضحايا، وضمان عدم تكرار هذه الأحداث في المستقبل، من خلال مجموعة من الآليات والإجراءات التي يتم اتخاذها لتحقيق هذه الأهداف، ومن بينها المحاسبة ومحاكمة المسؤولين عن جرائم الحرب والانتهاكات الجماعية، وتحقيق العدالة للضحايا وعائلاتهم، وإصلاح المؤسسات والنظم القانونية والأمنية والعسكرية، وتحسينها بحيث تكون قادرة على منع إعادة تكرار مثل هذه الجرائم، والعمل على إعادة بناء الثقة بين المجتمعات والمؤسسات وتعزيز العدالة الاجتماعية والاقتصادية، وبالتأكيد تعويض الضحايا وعائلاتهم عن الأضرار التي لحقت بهم، وتوفير الدعم النفسي والاجتماعي لهم، مع أنه، في الغالب، لا شيء سيعوضهم عن فقدان أحبتهم وحيواتهم التي دُمّرت.
وللأسف، طفت مؤخراً على السطح في منطقتنا هذه الدعوة البغيضة لمقايضة العدالة بالسلام مرّة أخرى، وبدأ الكثيرون بالهرولة، شرقاً وغرباً، باتجاه التطبيع مع أنظمة مجرمة تسبّبت في قتل مئات الآلاف وتشريد الملايين وإخفاء عشرات الآلاف قسرياً، من خلال محاولات إعادة تعويم مجانية، دون شرط أو قيد، ودون أدنى محاسبة أو مساءلة، تحت عباءة إحلال السلام وإعادة الإعمار!
التنازل عن العدالة في سبيل السلام وعدم محاسبة مجرمي الحرب وأمرائها لا يجلب سوى هدناً زائفة مع احتمالات كبيرة لتفجر الأوضاع مرة أخرى، ولو بعد حين
تعتبر هذه المحاولات البائسة لتعويم أنظمة مجرمة دون تحقيق العدالة لضحايا الانتهاكات غير مقبولة من الناحية الأخلاقية والقانونية. فالتغاضي عن جرائم الحرب وانتهاكات حقوق الإنسان، يشكل خرقاً للمواثيق والاتفاقيات الدولية التي تنصّ على ضرورة محاسبة المسؤولين عن هذه الجرائم وتقديمهم للعدالة، وتحقيق المصالحة المزعومة بدون تحقيق العدالة لن يؤدي إلا إلى تعزيز ثقافة الإفلات من العقاب، وسيرسل رسالة لجميع المستبدين حول العالم بأنهم فوق القانون، وأنّ بإمكانهم ارتكاب الجرائم دون الخوف من أيّ حساب أو عقاب، وبأنّ مجرمي الحرب وزعمائها سيربحون دائماً، وبأنّ الضحايا سيستمرون في دفع ثمن قذارة السياسة.
اعتقد كثير من الفلاسفة، كإيمانويل كانط، أنّ العدالة شرط أساسي لتحقيق السلام الدائم، وأنّه لا يمكن التضحية بالسعي لتحقيق العدالة من أجل السلام، والتخلّي عن محاسبة المجرمين والمنتهكين وحماية الحقوق الفردية. بينما جادل آخرون بأهمية تحقيق السلام بأيّ ثمن! وسؤالي: هل يستطيع هؤلاء النظر في عيون ملايين الضحايا وإخبارهم بأنّ عليهم تجاوز مآسيهم ومعاناتهم في سبيل سلام يُضحّى فيه بحقوقهم مقابل حرية المجرم، ولربما مكافأته أيضاً؟