وائل دحدوح: كيف علَّمني مهنة الصحافة
باختصار وكي لا أطيل المقدمة عليكم، سوف أصبح صحافياً بسبب ذلك الرجل الذي علّمني خلال سبعين يوماً أكثر مما تعلمته في أربعِ سنوات جامعية في كلية الصحافة والإعلام، والذي أثبت لي الحقيقة، والتي هي أنَّ العلم الذي نتلقاه يختلف تماماً عن الحياة المهنية التي سوف نمارسها. نعم هما مكملان بعضهما بعضاً، ولكن بذات الوقت مختلفان بشكلٍ كبير.
ذلك الرجل لم يعلّمني المهنية الصحافية فقط، بل علّمني الصبر والقوة والإيمان بالله ولقنني درساً بالعزيمة والإصرار وغيَّرَ وجهة نظري تجاه مهنة الصحافة بشكل عام، وأثبت لي وللعالم أجمع أنها ليست مهنة أو حالة أو فترة، ولربما يمكننا القول مَلَكَة أو وظيفة. سموها ما شئتم بل هي أكثر من ذلك بكثير لمن شاء، فالذي تعلمته من وائل دحدوح لم أدرسه في الجامعة ولم أتلقَّه ولا بأي ورشة تدريبية كنت قد حضرتها سابقاً.
ذلك الرجل المتين الشجاع الضليع وقف أمام الكاميرا يرثي أفراد عائلته، من بينهم زوجته وابنه، مقابل أن يستمر في إيصال صوت غزة إلى العالم من خلال شاشة وصلت إلى كل العالم وهي "الجزيرة".
ذلك الرجل لم يعلّمني المهنية الصحفية فقط، بل علّمني الصبر والقوة والإيمان بالله ولقنني درساً بالعزيمة والإصرار وغيَّرَ وجهة نظري تجاه مهنة الصحافة بشكل عام
لم يكلّ ولم يملّ ولم ييأس من الظهور وإيصال الأخبار والأنباء، وأمس وقف وقفة لم يكن هناك مثلها من قبل، وبعد أن أُصيب وفي يديه ما يسمى طبياً "مسرى الوريد" من أجل تلقي العلاج والسيروم، واجَهَ الكاميرا مرة أخرى وهو يرثي صديقه الشهيد سامر أبو دقة الذي توفي بعد استهدافهما من قبل الاحتلال الإسرائيلي في غزة.
درستُ في الجامعة الخبر وأركانه، ولم أدرس كيف يصبح من يحاول إيصال الخبر هو الخبر، درستُ أن الصحافة مهنة المتاعب ولم أدرس أنها مهنة تحتاج إلى الصمود والإنسانية أكثر من أي شيء. فذات الوقت الذي تعمل فيه على نقل الحدث قد تسعف جرحى هم بجوارك، وقد ترثي أصدقاءك وزملاءك وربما أفراد عائلتك وأنت تستمر بصمودك كي يدرك العالم ما يفعله الاحتلال أو المجرمين والقتلى.
في سورية، مصر، العراق، فلسطين وغيرها الكثير من الدول توفي العديد من الصحافيين، منهم متأثراً بإصابته وآخر نطق الشهادة وتوفي، وجميع هؤلاء الأشخاص كانوا دائماً يخرجون عن عادات المهنة وعن تقاليدها وأعرافها، ففي ذلك الحين وأثناء تغطية الحدث، لم يكن الصحافي يحمل كاميراه أو ميكروفونه بيده، بل كان يحمل روحه على كفه أو كما يقول الشاعر الفلسطيني إبراهيم طوقان: "روحه فوق راحتِه"، ليثبتوا للعالم أجمع أن هذه المهنة هي من أنبل المهن في التاريخ.
وعندما سأل حمزة والده وائل ما هي أسوء لحظة مرت عليك في الحرب؟ كان جوابه "أصعب أنواع الألم الذي يمكن أن يكابدها ويتجرعها أي شخص هي آلام الفقد، آلام الفقد هي آلام موجعة جداً جداً".
واخيراً تعلمنا في الجامعة أنواعاً عديدة للصحافة وأشكالاً مختلفة لنقل الخبر، ولكن وائل وسامر اليوم، وبالأمس شيرين أبو عاقلة، وغيرهم الكثير من الصحافيين قد علَّمونا طرائق جديدة ننقل بها الخبر لهذا لعالم البائس.