وانتصر العلم اليمني
خرج بعض اليمنيين للاحتفال بذكرى ثورتهم 26 سبتمبر في العاصمة اليمنية صنعاء، فقام أمراء "التصرفات الفردية" بالاعتداء بالبنادق على بعض الشباب الحاملين للأعلام اليمنية، حتى أدموهم، وانتزعوا الأعلام منهم، فما كان من اليمنيين إلا أن انتفضوا داخل اليمن وخارجه، وهبّوا أفواجاً، ذكوراً وإناثاً، شباباً وعجائز وأطفالاً، رجالاً وركباناً، ولبّوا نداء العَلَم الذي نادى (وا يمناه)، حين حاول الابن العاق إهانته، فرفرف العلم اليمني على أنواعٍ عدّة من المركبات التي جابت المدن اليمنية، وعلى البيوت والشوارع، ولم يبقَ يمني إلّا ورفع العلم اليمني عالياً، حتى رفرف على نهر النيل، وفي قمم سويسرا، وبلجيكا، وألمانيا، وأميركا، ورسمه الرسامون والأطفال والمصوّرون، لينحني الظلاميون الحمقى رغماً عن أنوفهم لاحتفالات الشعب بالعَلَم الجمهوري والتفافهم حوله، وتعالت النداءات لتغيير تسمية المكان الذي أهين فيه العَلَم من "جولة ريماس" إلى "جولة العلم".
كمن يصلي صلاة الغائب بعد 61 عاماً، كان احتفال اليمنيين في الوطن والمنافي بثورة 26 سبتمبر 1962، التي قام بها شباب رفعوا وطنهم إلى العرش الذي يستحقه، غير أنه أمسى اليوم نعشاً ينزلق بهم إلى لحدٍ مقيت، حيث يتقاسم سلطته الخونة. فكيف يحتفل شعب بذكرى ثورته ضدّ الإمامة وإعلان الجمهورية اليمنية، والحرية والديمقراطية والاستقلال، فيما أحواله الآن متردية؟ هل خرجوا حقاً يحتفلون بذكرى ثورة انتهت واختفت كلّ أهدافها؟ ثورة ماتت وانقضت كلّ نتائجها؟ اليمن اليوم ممزّق، يخضع لحكم أئمة جدد بسطوا نفوذهم في بعض مناطقه من جهة، وتتناحر بقية مناطقه من وطأة الاحتلال من جهة أخرى. كما تتحكّم في مصير الوطن، بشكل كامل، أطراف سياسية متعدّدة تدَّعي أنها منه، فيما تنعم بالعيش خارجه، وتتقاسم غلّة بيع الوطن وخيانته، وكلٌّ ينهب اليمن وخيراته وشعبه من جهته، وبطريقته؟
اليمن الذي يعرف الغزاة بأنه مقبرتهم لن يستسلم لغزاة من أبناء جلدته يلوّثون عرشه
إنَّ خروج اليمنيين الآن للاحتفال بذكرى ثورتهم ليس إلّا إعلاناً لثورة جديدة تغلي في عروقهم؛ لأنّنا نَحِنُّ لوطن يحتوينا، نجتمع فيه في أمان، بعد أن صار أبناؤه أشلاءً متناثرة في كلّ البقاع. إننا نردّد أغانينا الوطنية كطعنات تدمينا، إنّ ناراً من تحت الرماد تستعر وتتحضَّر كبراكين ستنفجر قريباً (لتطغى وتكتسح الطاغي وتلتهمُه)، وخير دليل على هذا أنّ الجماهير لم تنتظر دولة، ولا إدارة حكومية أو رسمية، لتنظّم احتفالهم الوطني؛ بل انطلقوا في عدّة مدن يمنية، كما خرجوا في قلب العاصمة صنعاء يحتفلون بالجمهورية في وجه الإمامة في ثوبها الجديد والأكثر تشوّهاً من الإمامة القديمة، ولم يكتفوا بليلة أو صبيحة واحدة، بل لا تزال الاحتفالات مستمرة حتى اللحظة. وما الذي سيخيف شعباً يعيش منذ تسع سنوات تحت العدوان؟ ما الذي سيرعب طفلاً خرج من تحت أنقاض مدرسته؟ ما الذي يخرس امرأة دفنت أهلها وزوجها، واستخرجت أشلاءها من تحت أنقاض بيتها الذي طحنته الصواريخ؟
إنّ اليمني الذي نحت لغته الأصلية (اللغة المسندية) على الصخور، لن يقيّده الجهل والظلام، إن الذي بنى سد مأرب لن يسجنه دخان الحروب وظلامها، اليمن الذي يعرف الغزاة بأنه مقبرتهم لن يستسلم لغزاة من أبناء جلدته يلوّثون عرشه. ولن يطول الأمر مع شعب يحتفل بالحياة ولو من تحت الأنقاض، وسيخرج أبناؤه من تحت الصخور والبحار والرمال لينتفضوا، ويدحروا كلّ الغزاة، وكلّ المحتلين للسلطة، لن يحكم اليمن بكلّ مناطقه وأطيافه وأعراقه، إلا من يرتضيه الشعب الحر الأبيّ القوي العريق.