يا لهُ من يوم مشرق لم تنشب فيه الحرب بعد

06 أكتوبر 2024
+ الخط -

أن تحيا في انتظار دائم

ماذا الذي بوسع المرء فعله عند الانتظار؟ "درويش" أصابه هوس رصد الاحتمالات الكثيرة واللامتناهية. وخَلُص إلى حقيقة أنّ الموت لا يُحب الانتظار. بيد أنّ هذا التفصيل لم يكن ليُنظر إليه كاكتشاف هائل إن أخذنا في الحسبان حتمية الموت.

مشهد انتظارنا أزلي ومُحتّم تماماً كتعاقب الشهور والأيام والساعات: انتظار الخروج من عنق الزجاجة، انتظار الضوء في آخر النفق، المهدي المُنتظر بدوره ليخلّصنا من الانتظار. ولأنّ الانتظار حتمي خرجنا بفنّ منفرد اسمه: فنّ الانتظار. ذاك الذي أسهب في وصفه الدرويش الفلسطيني. فن نتناقله عبر شيفرتنا الوراثية. الجد يروي لأحفاده ذاكرته عن أراضٍ مُباركة ذات خير وافر بكروم عنب وبيارات ليمون. في الأراضي بيوت، وللبيوت مفاتيح أُخذت على عجل قبل رحيل ظنّهُ الجدّ مؤقتاً وسريعاً.
الأحفاد يكبرون ويرون بدورهم ذاكرة أجدادهم عن أراضٍ مباركة ذات خير وافر، وبيت تُرك على عجل. الأجيال تتوالى وتكبر والمفاتيح لم تعد تُحصى. أُطِّرت في صور وزيّنت جدار المنزل كذكرى ودليل على حسن فنّ الانتظار.

الحياة تجري في مكان آخر

أدمنت منذ سنوات تصفّح مدوّنة سعودية دأبت على تسجيل يومياتها بصورة شبه منتظمة وقد وجدت فيها عالماً موازياً من المتعة، شيء يُشبه تناول لوح شوكولاتة في السر.

 قراءات متنوّعة، أفلام ومسلسلات، وصفات مُبتكرة لوجبات صحيّة، أنماط معيشة متوازنة. إلى جانب تدوينات تتناول أسفارها الكثيرة. استوقفتني تدوينة بعينها كانت قد كتبتها من وحي حفلة موسيقية حضرتها في آب/ أغسطس الفائت وجاء في الوصف عبارة: "لقد انتصرنا في الحرب العظيمة" وعقَبت شارحةً بأنّ هذا المصطلح الذي أطلقه جمهور تايلر سويفت على حرب التذاكر، وأنّ حصولها على التذكرة يعني انتصارها في الحرب.

لا ضغينة، لكن بوسع أي أحد أن يرى التوازن الاجتماعي لوحة سريالية مُمزّقة بصورة صارخة، مضحكة ومبكية في آن واحد، كما لو أن الحياة تجري في مكان آخر ونحنُ هنا نحيا مشهداً مُصغّراً لأهوال يوم القيامة يُعاد كل يوم إلى ما لا نهاية.

نحنُ نرقص كبهلوان على خيط الحياة اللامرئي، الحياة التي تتسرب دونما إدراك نحو المجاري خلال رحلة الانتظار. آخرون يرقصون على خيط طابور لا مرئي لنيل تذكرة حفل ما.

أقسم أنّهُ لا ضغينة فليس من المنطق والعقلانية أن نبتلع العالم بأجمعه في ثقبنا الأسود، ثقبنا نحن -دول الطوق- طوق الكلب المسعور الأجرب الذي حلّ بيننا منذ ثلاثة أرباع قرن. لكن لا يمكن لأيِّ إنسان عاقل ألّا تستوقفه مليّاً عبارة "حرب" التي وردت في غير معناها.

بالتأكيد، لا ضغينة، بل يبدو ضرباً من ضروب الرومانسية المبالغ بها أن أمتلك توقّعات على شاكلة أنّ الإنسان يشاطر أخاه الإنسان همومه وآلامه. أن يشغل العالم نفسه بنا لزمن أطول من الوقت الذي يستغرقه مرور خبر سريع في نشرة إخبارية تليها تغطية كثيفة عن حفل تايلور الجميلة.

تقترب الذكرى الأولى للسابع من أكتوبر بداية العدوان على غزّة.. كيف نطلق عبارة الذكرى الأولى على حرب؟ أتخيّل أن تلك الصبية السعودية ستجد في عبارة "الذكرى الأولى" غرابة كتلك التي وجدتها أنا نفسي في توصيفها للحرب. إنّهُ اختلاف بسيط في القاموس الذي نستخدمه، لكن حتماً ليس من شأنه أن يفسد للود قضية.

الحرب حقل مغناطيسي يلف الأجواء هذه الأيام. ألصقت زجاج نوافذ غرفة أطفالي ووضعت ستارة إضافية سميكة، في الحقيقة ليست ستارة، هي غطاء سميك ألقيته فوق السكة المعدنية أعلى النافذة.. إن نشبت الحرب.. أو ما يشبهها كانفجار، قصف، تفجير.. سيكون تناثر الزجاج أقلّ ضرراً. لهذا المشهد رجع في ذاكرتي يعود إلى أيام حرب العراق حين طُلب منا إحضار بكرات لاصقة، ألصقوا بها الزجاج الرقيق للنوافذ الواسعة في صفوفنا المدرسية.