يموت أبو سلوم مرتاح البال
(صبيحة العيد- 2005).
اعتدنا خلال أعياد الفطر الماضية أن نتناول الطعام في منزل الخال فارس، في وقت حائر بين الفطور والغداء. الفكرة، في الأساس، طرحها الخال عموري، إذ قال إن الأصول الاجتماعية الحقيقية تقتضي أن نفطر في منزل أكبرنا سناً، وهو أخي وشقيقي فارس.
اعترض وقتها أبو سلوم، وقال:
- الكبر في السن لا يقدم ولا يؤخر، فلو كنتُ أنا الأكبر سناً بينكم لبقيتم بلا طعام، كما لو أنكم ما زلتم صائمين. والله أنا لولاكم أيها الطيبون المحترمون لأمضيتُ شهر رمضان جائعاً.
وضحك تلك الضحكة الشبيهة بضحكات الحشاشين وقال:
- بتعرفوا أبو خالد الجورنباسي؟
قال بعض الحاضرين إنهم يعرفونه، وسأله الأستاذ كمال إن كان أبو خالد الجورنباسي هو ذلك الشخص الظريف الذي يصوم شهر رمضان، وفي الوقت نفسه يتضايق من الصيام. فقال أبو سلوم:
- نعم. هو بذاته. وبالأمس صادفته في مدينة إدلب فحكى لي حكاية يستحيل أن أنساها ما حييت.
قال الخال فارس: احكِها لنا.
قال أبو سلوم: أبو خالد الجورنباسي عنده عم ختيار، عمره 88 سنة من عدا الليل، اسمه "أبو حمود". وفي رمضان الفائت، في اليوم التاسع والعشرين على وجه التحديد، طلب القاضي الشرعي من المواطنين التماسَ هلال شهر شوال ليعرفوا إن كان اليوم التالي هو عيد الفطر المبارك أم لا، وبينما كان الناس منتشرين، يملأون الأسواق ليشتروا الألبسة الجديدة للأطفال والكبار، واللحوم والبقوليات والخضار والفواكه واللحوم والفراريج، صار وقت نشرة أخبار الساعة الحادية عشرة ليلاً. وفي الخبر الأول أعلن المذيع أن يوم الغد هو مكمل لشهر رمضان، وأن العيد سيكون بعد غد، فنوى أبو حمود الصيام كالعادة، وصام حتى آخر لحظة من اليوم الثلاثين، وعند وقت الإفطار صاح: قلبي قلبي، فطلب له أولاده سيارة الإسعاف، فحضرت، وحمله الممرضون، وطارت به السيارة إلى مشفى الهلال الأحمر، وبمجرد ما مددوه على طاولة المعاينة وجدوا أنه مفارق الحياة. فما رأيكم؟
قال الخال عموري: أنا رأيي يا أبو سلوم هو التالي: تضرب أنت وأبو خالد الجورنباسي على هذه القصة البايخة. بتعرف ليش بايخة؟
قال أبو سلوم: ليش؟
قال عموري: لأن الرجل عمره 88 سنة، وفي كل لحظة يتوقع الواحد منا أنه سيموت، وموتُه بعد إتمامه صيام شهر رمضان دليل خير له، ولا شك أن الله تعالى سيكرمه ويدخله جنات النعيم.
كان أبو سلوم يأكل اللقمة الأخيرة من صينية الكنافة التي قدمها لنا الخال فارس بعد الطعام، فمسح فمه بمنديل مبلل بالماء، واندفع نحو الخال عموري، وتناول يده وراح يقبلها، ويقول:
- أبوس يدك، ما أذكاك، وما أفهمك. لك عمي ليش أنت ما بتنتظر لحتى نكمل الحكاية، وبعدها بتستخدم الذكاء المفرط تبعك؟
قال أبو ياسين: أبو سلوم معه حق. خلونا نسمع تتمة الحكاية يا شباب. تفضل أكمل أبو سلوم.
قال أبو سلوم: أبو خالد الجورنباسي، بعدما حكى لي قصة أبو حمود الذي انتقل إلى رحمة الله، ألحقها بحكاية حماته التي توفيت قبل حلول شهر رمضان بيوم واحد، ثم قال لي:
- لا شك أن الله تعالى عنده حكمة لا نستطيع نحن بلوغها، لأن رؤوسنا صغيرة وعقولنا محدودة، وأما أنا، ومع كامل خشوعي لمشيئة الله، أرى أن حماتي محظوظة جداً، إذ إنها ماتت قبل أن تصوم يوماً واحداً، على عكس أبو حمود الذي صام 30 يوماً ومات.
التفت أبو سلوم نحونا وعيناه ممتلئتان بالحزن وقال:
- هل تعرفون ما هي الحكمة من هذه الحكاية بالنسبة لي أنا؟
قال أبو ياسين: ما هي؟
قال: الحكمة هي أنني، إذا متّ الآن، بعد أن تناولتُ ثلاثين طعام إفطار رمضاني، وفوقها فطور العيد عند هذا الرجل الطيب الكريم المعطاء... فإنني أموت وأنا مرتاح البال والضمير.
واندفع نحو الخال فارس وقال له: ممكن تعطيني بوسة من يدك الطاهرة؟
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
انتهت حلقات السمر الرمضاني لهذا العام. كل عام وأنتم بخير.