"يُعرف المرء من أغانيه"
كتب صديق لي ذات مرّة، معلّقاً على مقال كتبته عن "الذائقة الفنية"، أنّ الإنسان "يُعرف من أغانيه"، وأضاف مازحًا، أنّه يستطيع أنّ يعرف 60% من المعلومات عن أي شخص إذا ما نظر إلى محرّك البحث الخاص به على جهاز هاتفه أو حاسوبه.
قبل أشهر قليلة من رسالة صديقي، وأثناء عودتي من الجامعة إلى مدينة رام الله، وضع سائق التاكسي التي كنت أستقلها مقطوعة موسيقية معروفة لبيتهوفن. أبديت إعجابي بالمقطوعة حينها، وسألته عنها، لأنني كنت بصدد كتابة ورقة بحثية مصغرة لإحدى مساقات الجامعة عن هذه المقطوعة بالتحديد. وفور انتهائي من السؤال، بدأ الرجل حديثًا استمرّ لقرابة النصف ساعة، محاولاً أنّ يقنعني أنّه بالرغم من عمله كسائق تاكسي، فهو متابع جيد للفن، وبدأ يستعرض أمامي إنجازاتٍ كثيرة لم أعرف تمامًا إن كان صادقًا فيها أم لا، إلا أنّ أهم ما في الأمر، أنّ الرجل اختتم حواره قائلاً إنّ صعوبة الحياة المعيشية هنا هي من دفعته إلى العمل كسائق سيارة أجرة، مع أنّ اهتماماته "أبعد بكثير من ذلك".
فور نزولي من السيارة، ورغم انزعاجي من حديث الرجل المتواصل، فإنّه دفعني إلى التفكير في قضايا كثيرة. لماذا يحتاج سائق سيارة أجرة إلى نصف ساعة (وربما أكثر لو أنّ مسافة الطريق كانت أطول قليلاً) إلى أن يثبت لي أنّه يستمع إلى موسيقى بيتهوفن بالرغم من "عمله"، بينما لا يحتاج أستاذ جامعة ما إلى مثل هذه المحادثة الطويلة لإثبات ذلك.
ببساطة، وبحسب طروحات علم اجتماع الفن، فإنّ الإجابة تكمن في أنّنا نفترض مسبقًا (بمن فينا سائق التاكسي نفسه) أنّ "مكانة" أستاذ الجامعة من الطبيعي أنّ تجعله مهتمًا مثل هذا النوع من الموسيقى، بينما تبدو "ذائقة" سائق الأجرة أقرب إلى موسيقى أخرى "هابطة".
في سنوات دراستي الأخيرة في تخصّص علم الاجتماع، درست مساقًا بعنوان "علم اجتماع الفن"، وهو مساق يتطرّق إلى "الذائقة الفنية" بوصفها مساحة يحدّد فيها الأفراد موقعهم الاجتماعي والاقتصادي ويعبّرون فيها عن خلفياتهم المختلفة، إذ يبدو مستغربًا أنّ نسمع في حي شعبي في مدينة رام الله مثلاً موسيقى باخ أو بيتهوفن، بنفس القدر الذي يبدو فيه غريبًا أنّ نسمع موسيقى "حمو بيكا" داخل مطعمٍ في أحد أحياء رام الله "الراقية".
"ذائقتنا الفنية" تدل على خلفياتنا الاجتماعية والاقتصادية، وتشي عن موقعنا من هذا العالم
يُقال إنّ عالم الاجتماع الفرنسي الشهير، بيير بورديو، وهو أحد منظري هذا الحقل، بدأ جزءًا من مشروعه المعرفي حول الذائقة الفنية بعد أنّ رأى في أحد المعارض الفنية الشهيرة في فرنسا مجموعتين من الأطفال، واحدة تلهو في أرجاء المعرض وتحاول العبث في اللوحات الفنية، وأخرى يحمل كلّ طفلٍ منها دفترًا صغيرًا يسجل فيه الملاحظات حول الأعمال الفنية، مهتمين بالسؤال واستكشاف المعاني الكامنة وراء تلك الأعمال.
سأل بورديو نفسه، حينها، عن السبب الكامن وراء اهتمام المجموعة الثانية بتلك الأعمال، في حين تبدو المجموعة الأولى غير آبهة، متذمرةً من هذا المكان الذي يُمنع فيه لمس اللوحات، أو اللعب فيها.
بعد هذا الموقف، كَتب بورديو عشرات الكتب والمقالات حول "الذائقة الفنية"، باعتبارها مساحة يحدّد فيها الأفراد مواقعهم من الشرائح الاجتماعية المختلفة، إذ يصبح قرار سماع نوع معين من الموسيقى عملية تعبيرٍ مكثفة عن موقع الفرد من المجتمع.
يمكن فهم "الذائقة الفنية"، بحسب بورديو، باعتبارها امتدادًا لما يسميه "الهابيتوس"، وهو باختصار، العادات المكتسبة التي يتلقاها الفرد من تنشئته الاجتماعية ومن محيطه، سواء من خلال التعليم أو التربية أو العيش. من هنا، فإنّ "ذائقتنا الفنية" تدل على خلفياتنا الاجتماعية والاقتصادية، وتشي عن موقعنا من هذا العالم.
بعد مرور سنوات من لقاء سائق سيارة الأجرة، قرأت نصًا للكاتب الفرنسي، فرانسوا دو لاروشفوكو، يقول فيه إنّ عملية فهم مواقع الأفراد في أي مجتمع من خلال ملاحقة أذواقهم أقدر على التعبير من فهمها من مواقفهم وآرائهم المعلنة، ذلك لأنّ "الذائقة" هي الجزء المستتر من الرأي المُعلن. وفي تلك اللحظة بالتحديد، أدركت تمامًا ما الذي كان يقصده صديقي. فعلاً "يُعرف المرء من أغانيه".