حرياتنا الإلكترونية
في تزامنٍ غريبٍ بين ارتفاع أصواتِ ونداءاتِ الحرية في زوايا عدة دولٍ عربيةٍ، وانفتاح الشعبِ السّوري بشكل قوي على وسائل التواصل الاجتماعية، الذي فتح لهم الشرق على الغرب وبالعكس.
و مع كلّ إطلالة يوم جديد، نستيقظ على أخبار جديدة وتفاصيل مغرية عن أحداثٍ منها الشخصي ومنها في الشأن الاجتماعي والسياسي، وكل هذا ليس بجديد من حيث إنه أصبح روتيناً قديماً، تجدده العناوين اليومية، حيث يقرأ الجميع و يشهد ما لم يكن ليتصوره في أكثر التخيلات شذوذاً وتطرّفاً، وهنا كانت الصدمة.
هذه الحلقة المفرغة من تكرار متابعة حملات الاستنكار والتشهير، والالتزام ببرتوكولات المشاركة والإعجاب والتعليق، بقدر ما هي متعبة بقدر ما أصبح من الصعب الامتناع عنها. وتتساءل أحيانًا، هل نحن فضولويون إلى هذا الحد ونحقق متعة من كل هذا؟ أم هو إدمان عصري لا نفهم خفاياه؟
رغم الاعتقاد الشخصي أن الفضول البشري لاعب مهم، إلا أن البحوث أخيراً أفضت أيضاً إلى أن هناك علاقة بين "فيسبوك" ومركز المكافأة في الدماغ، الذي يعالج المشاعر المتعلقة بأمور مرغوبة، مثل الطعام والجنس والقبول الاجتماعي.
لذلك عندما نتلقى أي تعليق إيجابي أو كبسة زر تعبّر بالإعجاب، فإنها تضيء هذا المركز في الدماغ. وكأي نشاط بيولوجي فهو بافلوفي (نسبة إلى الطبيب الروسي إيفان بافلوف) بالضّرورة. وبالتالي كلما زاد استخدام "فيسبوك" وتلقي مثل هذه التعزيزات الإيجابية، زاد تفعيل هذه المنطقة والشعور بالتقدير، وتكرر الاستخدام. ناهيك عن أنه في خضم تزايد وتنوّع أشكال الوحدة المجتمعية، وُجِدَ في الحياة الرقمية منفذ للتواصل و للشعور بوجودنا، بطريقة أهمها ما تم تسميته بالتعاطف الافتراضي، الذي نقوم من خلاله على منح تضامننا مع قضايا وإظهار إعجابنا بفكر ما.
من زاوية أخرى فضولية للغاية، تبيّن أنه من خلال سلوكياتنا الافتراضية، أصبح من السهل تحديد أمور تعريفيّة عن المستخدم، كنوع الانتماء السياسي أو الديني أو العرقي، وأميل للإضافة الشخصية، أنه نوّع العقد النفسية التي يعاني منها هذا المستخدم.
حياتنا السورية الافتراضية غنية بالأمثلة على ذلك، فكما هناك صفحات ظهرت أخيراً، تتنوع بتنوع أطياف اللون، إن لم يكن أكثر، والتي تعبر عن آراء كل طرف في الصراع والمقتلة السورية. فقد كونت قاعدات من المتابعين الأموات سابقاً في الحياة الواقعية، والأحياء حالياً على الشبكة الافتراضية، من أصحاب الإعجابات والاستنكارات والافتاءات.
في الوقت نفسه تغرقنا الحملات التي تعكس تفتحاً على أفكار قديمة بالزمن والتطبيق، ولكنها جديدة على عقول معظم مجتمعنا. من هذه الأفكار على سبيل المثال لا الحصر، النسوية كمفهوم وتوجّه وطريقة حياة، والتي نالت من البحث والجدل من مفكرين، وبالأحرى من مفكرات غربيات، ما نالته من نضال استمر عقوداً من الزمن، تجلّى بتغيير بالقوانين وصيانة الحقوق وغيرها من المكتسبات.
ومع بدء النداء بالحرية بمفهومها الواسع، كانت عقول المنادين تسعى إلى شيء واحد، ألا وهو الحرية من طريقة حكم، ولكن مع الزمن بدأت تتبلور في العقول، وتحيي في اللاوعي حقوقاً كثيراً ما كانت مغتصبة اجتماعياً، قبل أن تكون كذلك قانونياً.
على سبيل المفارقة وليس المثال، كثير من السيدات في سورية، طلبن الطلاق من أزواجهن، بعدما اكتشفن، لأول مرة، الفرق الفكري الأخلاقي الشاسع مع شركائهم. وهكذا أمثلة لقيت أصداءً تمجيدية لفعلتها المستهجنة سابقاً في مجتمعنا، وذلك لتوافقها مع فعل المطالبة بحرية من موالي طريقة حكم.
الأمر لم يتوقف هنا، فمع ظهور إحصائيات كثيرة عن عدد النساء اللاتي طالبن بطلاقهنّ في دول اللجوء، ولكنّ لأسباب تنوّعت، منها وأهمها أنها وجدت في هذه الدول قوانين تحميها كامراة، وتعطيها حقوقاً كانت مغتصبة منها قانونياً واجتماعياً. هنا كانت ردات الفعل فيسبوكية شاجبة مستنكرة تعيب هؤلاء النساء، وبكل ما أوتيت نظرية المؤامرة به من حجج، حيث إنها تسقط العيب المجتمعي المزروع في عقل مجتمعنا على قوانين مجتمع غربي، يسعى لتفكيك مجتمعنا المتماسك الجميل.
طبعاً هكذا مفارقة غير مستغربة، فالإنسان يسعى بطبيعته لانتقاء ما يتوافق مع أفكاره و قضاياه، وانتقاص ومهاجمة ما يهدد طريقة عيشه المعتادة.
إن الهجوم الافتراضي التشهيري ومن دون أي محاولة حقيقة للنقد البناء، يتربص بأي محاولة من رجل أو امرأة للتعبير عن رأي أو توجه فيه شيء من الاختلاف، و خصوصاً عندما تكون المرأة هي الفاعل هنا.
من الملاحظ من عدة حوادث أنه مهما بلغت مكانة المرأة العلمية أو نشاطها السياسي أو الثقافي أو الفني، فإن أي محاولة منها لكي تعيش فيها حياة طبيعية من احتفال أو استجمام أو انتقاد موجة فكرية اجتماعية بالية، فإنها توضع موضعاً لا يحسد عليه أحد من التحقير والتشهير.
من اللافت أن هجوماً استنكاريا كهذا، لا يقتصر على فئة تتمتع بعقلية ذكورية شرقية بافلوفية أو إسلاموية محافظة إقصائية، وإنما وللأسف ممن يسميهه علم النفس بـ Wolves Pack والتي تعني حرفياً قطيع الذئاب، وهو وصف لمجموعة من النساء يجتمعن عادة للانقضاض على المرأة التي تجرأت و خطت خطوة غير تقليدية. ولفهم ميكانيزم هكذا تصرف، تمت دراسات وأبحاث أفضت لما هو يسمى الكره المتضمن للنساء internalized misogyny.
يخبرنا علم النفس أن هذه الظاهرة عابرة للثقافات، لأن المرأة حتى في أكثر المجتمعات تطوراً وحرية مرت بعقود من الاضطهاد والعنف الجندري، مترافقاً مع توجهات من قبول مجتمعي لهذا النوع الجائر من السلوك الذكوري. وبشكل أساسي، فإن ما نختبره من تجارب يساهم في تكويننا، وسيصبح جزءاً منا بشكل واع أحياناً، وفي أحايين كثيرة بشكل لا واع.
لقد وجدت المرأة نفسها تنشأ في مجتمعات تهز كيانها من خلال عنف منوع مبرَر، ويتم إخبارها أنه من الطبيعي أن يتصرف الرجل بهذه الطريقة. ومن خلال تكرار التجربة التي تنتقص من قدراتها و كرامتها، تصل المرأة إلى مرحلة أنها تصدق ما يقال، وتؤمن بأنها أقل، وهذا يغرس في اللاوعي، وتصل بها الحال لتعتقد أنها تستحق ذلك العنف، وتعتنق هذا النوع من الكره للنساء مع نفسها ومع غيرها من النساء.
إن هذا النوع من التشكيك بالنفس ينعكس بشكل واضح عند ظهور نجم امرأة قيادية، اختارت طريقاً غير اعتيادية، فإنك تشهد حملة تشكيكية بها من قبل قطيع الذئاب هذا، حيث يشارك الجميع في محاولة تدميرها وعدم دعمها، وهذا كان أحد الأسباب على سبيل المثال وليس الحصر، فيما حدث مع هيلاري كلينتون في الانتخابات الأخيرة. وكأن هكذا هجوم شنيع يحقق متعة معينة من خلال إسقاط تعقيداتهم الداخلية، على كل شخص يحاول القيام بأمر مهم.
وبالعودة إلى "فيسبوك" ووسائل التواصل الاجتماعية المتنوعة، تشعر الحزن ونوبات من الهلع تصيب أي فتاة ذات فكر مختلف عندما ترى هجوماً و تجريحاً بشخص امرأة تحاول الخروج عن المألوف، مهما كان هذا المألوف مقبولاً.
و ترى اعترافات فتيات رائدات في العمل المدني و الإعلامي، يعبرنّ، من وقت لآخر، عن الحملات الشنيعة التي تنالهن والتي أحيانًا تخلق الرغبة داخلهن بالانعزال والانطواء، ولكن يواصلن رغم ذلك. السبب في الاستمرار أن النساء الرائدات يتجاوزن كثيراً المراحل من خلال تحدي أنفسهن أولاً، بفهم لا وعيهن بشكل عميق، ومواجهة مخاوفهن وشكوكهن، وهذه هي الطريقة الوحيدة التي يمكن للمرأة فيها أن تصل إلى الريادة.
كثير من الشركات البحثية العالمية، أولت اهتماماً لدراسة السلوك البشري الإلكتروني، لما يعكسه هذا السلوك من الخفايا والرغبات والتحيزات التي تؤثر بشكل أو بآخر على كل ما يتم نشره من أخبار حرب أو انتخابات. ولا يخفى على أي متابع لهذه السلوكيات الجمعية الإلكترونية في مجتمعنا العربي، ما تظهره من الكم الهائل من التحيزات والإقصاء وعدم تقبل الآخر مهما كان. إن ما كان مخفياً تحت غطاء الأدبيات والمجاملات الاجتماعية الزائفة أصبح الآن وبشكل رقمي مجنوناً، يظهر على السطح بشكل مخيف.
هذه السلوكيات التي تظهر مدى عدم الثقة والشك التي نملكها في أنفسنا وفي الآخرين، نلحظ انعكاسها على الحراك الشعبي الذي يتعثر ويتقهقر يومياً، مع كل هجمة مستعرة ينشغل بها الافتراضيون لتمزيق شخص جديد. وكما يفضل أحد أصدقائي تسمية "فيسبوك" بكتاب الوجه، فعندما نتصفحه يومياً يمر في الخاطر تساؤل عن أي وجه نتكلم ونكشف من عقلياتنا؟