وعد المدينة الزائف: النساء والتحرش الجنسي
قبل عدة أسابيع، نشرت مؤسسة تومسون رويترز نتائج تحقيقها بشأن إجراءات حماية النساء في عدة مدن مليونية والذي انتهى إلى أن القاهرة هي أكثر مدن العالم خطرًا على النساء من حيث مستوى الخدمات الصحية والاستقلال المادي و"العادات الاجتماعية والثقافية المضرة"، فيما تصدّرت مدينتا ساو باولو ونيودلهي قائمة أكثر المدن التي تتعرض فيها النساء للعنف الجنسي.
في نفس السياق، وقبل عدة أشهر، قررت اللجنة المنظمة لمهرجان روفالا، أحد أكبر المواعيد الموسيقية بالسويد، أن الموسم الحالي هو آخر المواسم لهذا المهرجان بسبب حالات الاغتصاب التي سجلتها الشرطة السويدية وارتفاع نسب التحرش.
وبالرجوع إلى تقرير مؤسسة تومسون رويترز في 2015، يجد المرء أن باريس ولندن ونيويورك كانت ضمن قائمة أكثر المدن التي تتعرض فيها النساء للتحرش في وسائل المواصلات، وللمفارقة، لم تكن القاهرة ضمن هذه القائمة.
وبغض النظر عن المعايير التي أجري على أساسها تحقيق تومسون رويترز، وهي عادة ما تكون معايير ليبرالية فيما يخص الاستقلال المادي وتعريف العادات والثقافات المضرة، فإنه ثمة حقيقة لا يمكن إنكارها ولا يمكن غض الطرف عنها، وهي أن نسب التحرش ومستويات العنف الجنسي تجاه النساء في شوارع القاهرة فاقت كل الحدود، غير أنه بوضع تلك الأخبار والتقارير جنبًا إلى جنب، تصبح كل التحليلات الثقافوية لظاهرة العنف الجنسي، باعتبار أن الثقافة العربية كارهة للنساء أو أن تنشئة الأطفال في العالم العربي قائمة على التمييز بين الجنسين، بلا أي معنى وفاقدة لأي قدرة تحليلية، وأن ثمة أمرًا آخر مشترك لهذه الظاهرة.
يتضح الأمر أكثر فأكثر إذا ما وضعنا نسب التحرش في صعيد مصر، حيث مازالت للبنى القبلية والروابط العصبية بعض الأثر على المستوى الاجتماعي، بجانب نظيرتها في المدن الحضرية. فبينما لم تتجاوز نسبة التحرش في محافظات الصعيد مجتمعة 5% من إجمالي حالات التحرش التي تم رصدها خلال مائة يوم كاملة في 2014، كان نصيب القاهرة وحدها 30% والإسكندرية 35% في تقرير خريطة التحرش الذي أعدته مبادرة "شفت تحرش".
الأمر الذي لن يختلف كثيرًا في أي عاصمة عربية كبرى. ثمّة حجة استشراقية دائمًا ما تتكرر في هذا السياق، وهي أن تراجع هذه النسب في الصعيد والمجتمعات القبلية يرجع إلى ضعف حضور المرأة في المجال العمومي لا بسبب حضورها وتوفر شروط الحماية، غير أن أرقام ونسب حضور النساء في الجامعات الحكومية وقطاع العمل الرسمي، وبملاحظة غير الرسمي أيضًا، تناقض هذه الفرضيات. فنسبة الإناث في التعليم الجامعي على سبيل المثال في الصعيد تتجاوز نسبة الذكور ونسبة القوى العاملة من النساء في أسوان هي نفس النسبة في محافظة الإسكندرية.[1]
إذا ليس من قبيل المصادفة هذا التفاوت الكبير بين نسب التحرش في محافظات الصعيد وبين نظيراتها في المدن. لقد نشأ مفهوم المدينة في الفلسفة اليونانية والأدبيات القديمة كفضاء عام للاجتماع البشري تتجلى فيه قيم التمدن والرشادة باختلاف صيغها.
واستمرت بهذا المعنى حتى مجيء الثورة الصناعية وبزوغ وعد الحداثة، حيث طرأت شروط جديدة كالتحديث والعلمنة والتعزيز من قيمة الفرد في مقابل الجماعة ونشوء مفهوم المجال العام -بمعناه الليبرالي- كسمات للمدينة. وبحلول سبعينيات القرن الماضي بزغ نجم المدن المعولمة التي اتسمت بأعداد سكان مليونية وأسواق استهلاكية كبرى ونمط تخطيط عمراني يعزز من أنماط العيش الفردي والاستهلاك كقيمة.
في هذا السياق، أصبح القانون هو الأداة الوحيدة لحفظ الحقوق بين أفراد هذه المدينة، ونُحيَّ جانبًا كل التقاليد والأعراف التي اعتبرت كقيود تكبل من حركة الفرد. فهنا، غير مسموح أن يكون للاحتساب المجتمعي دور في ردع المتجاوزين، ولا ينبغي أن تكون جلسات العرف فضاءً لحل النزاعات، فالقانون وحده هو القادر على الضبط ورد الحقوق وردع الخارجين عنه. إذا فحين وعدت المدينة، والحداثة من قبل، بتحرير الفرد من الجماعة والقبيلة فإنها كسرت معها كل خطوط الحماية والأمان التي كانت تمده بها الجماعة.
في الصعيد على سبيل المثال يفكر الفرد ألف مرة قبل أن يقدم على فعلٍ كهذا، لأنه بكل سهولة يعلم أن هذا التعدي لن يكون تعديًا على شخص المرأة ولكنه يتعدى على كيان اعتباري من أهل وعائلة وأعراف لن تقبل بمرور هذا الفعل مرور الكرام. وكما أن وجود الفرد ضمن الجماعة، مثلما يوفر له حقوق الحماية والأمان فإنه يفرض عليه في المقابل بعض الواجبات مثل إعطاء الحق للجماعة في تقويم سلوكه عند الخروج على هذه الأعراف والتقاليد.
كذلك يسمح النمط العمراني الذي يعرف فيه أفراد المجتمع بعضهم البعض وأعداد السكان بسهولة التعرف والوصول على مرتكب أي فعل خارج، بينما في المقابل يحوّل النمط العمراني الحديث البشر إلى محض أرقام في بطاقات الهوية وبالتالي تصبح فرصة الهروب والنجاة من تبعات أي فعل أعلى في المدينة. أضف إلى ما سبق أن المجال العام نفسه أصبح مجنسنًا بإفراط "over sexualized"، فيكفيك متابعة الاستعارات السياسية للانتقاص من الطرف الآخر أو قراءة الكتابات السياسية على الجدران لتجدها كلها تشبيهات جنسية. وأضف أيضًا، أن الجسد نفسه صار مستباحًا سواء سياسيًّا من قبل السلطة أو اقتصاديًا من قبل صاحب رأس المال. يصبح جسد المرأة في ظل علاقات القوة أكثر قابلية للاستباحة في ظل انعدام كل شروط الحماية السابقة.
بالطبع هذه ليست دعوة لهجرة المدينة ولا للعودة إلى شروط الحياة ما قبل الحديثة بقدر ما هي مساءلة لوعودٍ لم تنفّذ ومحاولة لفهم ما تغير بتغير أنماط العمران وتأمل ما كسرته الحداثة في صيرورتها من منظوماتٍ كان لها دور في حفظ قيم التمدن والرشاد.
*[1] تقرير الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء 2015