حزب الإصلاح اليمني... ما له وما عليه
هذا الحزب هو جزء من الشعب اليمني بكل أطيافه وتناقضاته وبيئاته، لذلك نجده متنوعا بقدر اختلاف طبائع اليمنيين وطريقة نظرتهم للأمور حسب ما تمليه البيئة أو القبيلة أو الموروث. ما يميزه تماسك قواعده وانسجامها وقدرتها على استشعار الأخطار واستعدادها للتضحية في مواجهتها، بخلاف قياداته التي لا تلبي طموح هذه القواعد المحنكة والنبيلة.
يعول الشعب اليمني كثيراً على هذا الحزب إلى جانب الجزء الحي من المؤتمر الشعبي العام في المحافظة على وحدة نسيج البلد وتماسكه واستقراره، ويدرك الكثير من اليمنيين أن أي مساس بتماسك الإصلاح وحضوره، يعني انهيارا لوحدة المجتمع وتماسكه على اعتبار أنه يمتد في كل اليمن من أقصى محيطه إلى هضابه.
لكن ما يعاب على "الإصلاح" هو الصف الأول من قياداته الهرمة محدودة الخيال والقدرات، والتي تفشل غالباً في بناء التحالفات والتمييز بين الصديق والعدو، فهي تخطئ التقدير غالباً في فهم قواعدها والتعبير عن رؤاها ونظرتها للأمور. تضع القواعد في مواقف باهتة وهم يحاولون التبرير لوهنها وتناقضاتها وسوء إدارتها وبطئها الشديد في فهم الواقع أو التعامل معه بمرونة وحكمة. تنظر للخنوع على أنه حكمة، وللتنازلات على أنها تجنب للفتن، وتتعامل هذه القيادات بمبدأ التزكيات والثقات وليس بمنطق الحنكة والدهاء السياسي.
هذا التناقض في بنية الحزب، أدى إلى فجوة ضخمة بين القيادات والقواعد، فقواعد الحزب تبدي استعداداً للتضحية والمواجهة وتقدم تضحيات جليلة في الدفاع عن الوطن والبقاء، وتفضل خوض معركتها ككتلة واحدة بهبة واحدة وانتفاضة كبيرة في كل البلاد يصعب التحكم بها أو مجابهتها، لكن القيادات مرهونة لأفقها الضيق وخيالها المحدود وهو ما سبب تمزقاً لقواعد الحزب، وساهم في قهرها وتحميلها التبعات والإجحاف في كل الجنوب ومعظم الشمال.
هذا الرعب والتوجس الذي تتعامل به القيادات مع قضايا الوطن الكبيرة، يسبب شتاتاً لقواعدها وللبلد، فبرغم كل تضحيات شباب الحزب الضخمة إلا أن مواقف قياداته تظل باهتة في مواجهة الاحتلال والقهر والفساد والعبث، وتجبن في التعبير عن سخط القواعد وثورتها.
منذ تأسيس الحزب قبل 29 عاما، وذات القيادة التقليدية تحكمه، وكمثال بسيط لسوء إدارتها وتخبطها هو قراراتها الانفعالية واستغلالها لمرونة قواعدها وطواعيتها بشكل سيئ يخدم تناقضاتها ويتصادم مع المجتمع في سبيل تمرير هذه التناقضات.
كان الحزب في البداية أشبه بجماعة دينية تحاول استنساخ تجارب عابرة للحدود بشكل كامل بدون أدنى اعتبار لطبيعة المجتمع اليمني وبيئته وتناقضاته، ثم تحول تدريجياً إلى ما يشبه الحزب السياسي الحقيقي، لكنه كان يستقطب القواعد ويهذبها في المساجد ليستخدمها لاحقاً في صناديق الاقتراع، وهذه كارثة.
من المعيب أن يقاد حزب بهذا التنوع والثراء من شيخ قبلي محدود القدرات في البداية ثم من ضابط استخباراتي محدود الخيال والحنكة. هذا العسكري وإن بدا مثقفاً إلى حد ما، إلا أن ثقافته -في تقديري- من ذلك النوع الذي يتصادم مع المخالف، ويرى في نفسه وجماعته رجاحة الفكر وصفاء العقيدة وأحقية التمكين. مثقف على طريقته يدخل السياسة وعنده رغبة مشتعلة لإلغاء التنوع والتمايز في المجتمع وفرض نمط من الأفكار والموازين التي يسمح لنفسه من خلالها أن يكون وصياً على الناس، يحدد لهم ما يفعلون وما لا يفعلون ولديه الاستعداد الكامل للتصادم مع المجتمع المخالف إلى ما لانهاية، ويعتبر رفض الآخر المختلف عنه تمحيصا له وابتلاء.
هذه العقليات الصدئة هي من أوصلت الحزب إلى عزلة كبيرة، يحاول اليوم شباب الحزب كسرها والتعامل بمنطق آخر يلغي الطريقة التقليدية في تنفير المختلف وتحقيره، لكن كل هذه الجهود قد تذهب هباء ما دام من يحكم الحزب منذ عقود ضابط استخبارات، ونحن نعلم ماذا بوسع ضابط استخبارات سابق أن يفعل بحزب سياسي متنوع وبخلفية مؤدلجة!
وكجزء من هذه التناقضات إذا ما استغرقنا في استذكارها، وقوف قيادات الحزب التقليدية ضد الوحدة اليمنية قبل تأسيس الحزب على اعتبار أنهم يحافظون على الدين والعقيدة، ثم أصبحوا يحشدون أتباعهم في مرحلة لاحقة لخوض حرب ضروس لأجل الوحدة مرة، ولأجل أفغانستان مرات، وبنفس المبرر السابق ودون أدنى مراعاة لوعي الجماهير ونضجها، وهذا النمط من الاستغباء هو ما ساهم في تشكيل فجوة كبيرة بين الحزب وبقية مكونات الشعب.
تحالفت قيادات الحزب مع علي عبدالله صالح سنوات بعد حرب الانفصال، وعبثوا معه وشاركوه وبرروا له، ولم ينبسوا ببنت شفة حين كان صالح ورجاله ينتهكون حق الجنوب ويصادرون حريته وثروته وموروثه.
استمر تحالفهم قوياً متماسكاً يدوس كل المخالفين وكان علي عبدالله صالح مرشحهم لرئاسة اليمن في انتخابات 1999، قالوا فيه ما لم يقله عنترة في عبلة وسوقوه للشعب اليمني على أنه بطل ومخلص كما يفعلون مع عبد ربه هادي منصور اليوم، قدم له الحزب كل أوراقه بمبدأ الثقة وحسن النية وأظهر نفسه كما لو أنه خاتم في أصبع الرئيس وعين من يرتضيه في قيادته، إلى أن مل صالح من شراكتهم وأقصاهم كعادته في إقصاء الحلفاء والغدر بهم وهنا كانت صدمتهم الكبيرة، أنهم أساءوا التقدير واعتمدوا حسن النوايا على حساب الحنكة والنباهة، فقرروا الدخول بتحالف مع خصومهم السابقين من اليسار والوسط وهذه نقطة قوة تحسب لهم، ساهمت في تقديم صورة مشرقة عن مبادئ الحزب ونضجه وأدت إلى توحيد المعارضة وعلو صوتها وتأثيرها.
في هذه المرحلة، كان الحزب يمشي بخطوات ثابتة بعد تعافيه من صدمته وقدم تنازلات مهمة وكبيرة وبدا متماسكاً في مشاريعه وأظهر نضجاً كبيراً في السياسة، إلى أن قامت الثورة الشعبية وعن طريقها حاول الحزب تحقيق مصالحه المتواضعة على حساب مطالب الشعب عالية السقف، وشكل مع بقية المكونات السياسية حجر عثرة في طريق التحول السياسي بقبولهم بصيغة باهتة من التحول، أفرزت الكوارث عوضا عن الحلول، وأوصلتنا إلى هذه اللحظة الكارثية.
كل هذه التناقضات شجعت الآخرين على استخدام الحزب شماعةً، وبالفعل نجح الحوثي في تسويق هذه الفكرة، فيما كانت قيادات الحزب منشغلة بحسن النوايا ومحاولة إرضاء الآخرين ماضية بتقوقعها وانطوائها على نفسها مما سمح للآخرين بتحجميها واستعدائها.
استمر خصوم الدولة في الحديث عن شماعة الإخوان ومن خلفهم دول إقليمية أخذت على عاتقها إخماد الثورات وتمزيق بلدان الربيع العربي.. الإمارات مثالا: تظهر هذه الدولة عداءً فجاً للحزب يصل حد رغبتها في تفتيت البلد رغبة باجتثاثه، ومع كل عدائها وقبحها الذي لن يقف عند حد، إلا أن الحزب يصر على خطب ودها ومغازلتها حد إيعازه لقواعده رفع صور قادتها في تعز، مدينة الثورة والثقافة، أجمل حواضر اليمن وأشدها وجعاً وقهراً من هذه الدولة اللقيطة، وكان كل هذا على حساب كرامة قواعده وتماسك نسيج وطنه ووحدة مصيره.
كذلك استمر الحزب في خنوعه المنافي لجذوة الثورة في قواعده، سكت وبدا باهتاً ومرتبكاً في مواجهة التنكيل الذي حصل لأبطاله وقواعده في الجنوب، من ساهموا في تحرير المدن واستعادة كرامتها وتماسكها.
ترك قواعده تواجه مصيرها ووقف يبكيها بصمت كما فعل مع قواعده في محافظات الشمال كعمران والجوف وحجة في الوقت الذي كان قادراً على قلب الطاولة والانتصار لهم وتقوية شوكتهم على مليشيات الشمال والجنوب قبل استفحالها، لكنه كعادته فضل الصمت والانكفاء.
في كل مرة تتعرض فيها قواعد الإصلاح للتمزيق، كان البلد يتمزق معها باعتبارها جزءاً أصيلاً من نسيجه وفي كل مرة أيضاً.. لا نجد من يتكلم عن هذا الظلم والوجع والقهر حتى من قيادات الحزب نفسها، بل يستمر التمزيق لمكوناته في طول البلاد وعرضها وبلا أدنى مقاومة، ولولا تمرد قواعد الحزب في تعز وانتصارها لمشروع الدولة والبقاء، لكان مسلسل التمزيق قد استمر بلا نهاية، ومع استمراره يستمر حديث القيادات الهرمة عن الحكمة والابتلاء، وعن رؤيتهم الخارقة العميقة التي لا تدركها عقول الأتباع، وعن العباقرة الثقات الذين لا يمسهم خطأ أو قصور، والكارثة أنهم يجدون من يقتنع بهذا الطرح من قواعدهم في كل مرة وإلى ما لانهاية!