جارته لورا فقط، التي تعمل مضيفة طيران، تتمكن من الحديث معه، حين تطلب منه سقي شتلات الزهور في منزلها، أثناء غيابها. لكن في إحدى الصباحات، يعثر أحمد على لورا مقتولة غارقة في دمائها، ويلاحظ أنه يشكّل المتّهم المثالي؛ ليس فقط لأنه عربيٌ غريب الأطوار، بل لكونه الوحيد الذي يملك مفاتيح بيتها. ولإبعاد الشبهة عنه والانتقام لجارته، يضطر إلى مغادرة عالمه الداخلي والبحث عن القاتل الحقيقي.
انطلاقاً من هذه الحبكة البسيطة، يشيّد مخرج الأفلام الوثائقية الموريتاني، كريم مسكه (1964)، روايته البوليسية الأولى "جاز العرب"، التي صدرت عن "دار فيفيان هامي" الباريسية عام 2012، قبل أن تصدر ترجمتها الإنجليزية أخيراً عن "دار ماكليهوس" اللندنية (ترجمة سام غوردن).
رواية تغوص بنا داخل عوالم طائفة اللوبافيتش اليهودية وجماعة السلفيين وطائفة شهود يهوه في الدائرة 19 من باريس، ونرافق فيها أحمد، وأيضاً الشرطيين جان أملو وراشيل كوبفرشتاين، في بحثهم عن قاتل الشابة لورا.
حبكة الرواية ستتعقّد تدريجياً مع دخول شخصيات جديدة على الخط. بينما ستتطوّر أحداثها بطريقة تجعلنا نشك في كون القاتل مجرّد أصولي أراد قتل لورا التي فرّت من منزل والديها المتشدّدين للعيش بحرية، إذ أين اختفت صديقتها ريبيكا التي رفضت الزواج من يهودي متديّن عثر والداها عليه في بروكلين؟
ولماذا يجهد الحلاق اليهودي، سام، في إقناع الشرطة بأن أحمد هو قاتل لورا؟ وماذا يخطّط الشاب مختار الذي كان جانحاً قبل أن يصبح إماماً يتمتع بسلطة كبيرة على أصدقائه في الحي، مراد وألفا وروبن؟ وهل من رابط بين أعمالهم المشبوهة وانتشار مخدِّر قوي في الحي؟ وما هي علاقة الأخوين جايمس وسوزان بارنس، ووالدهما المسؤول عن كنيسة شهود يهوه في بروكلين، بمقتل لورا في باريس؟
بخيوطها التي لا تحصى، وبطريقة الإمساك بها، وبأنفاسنا، حتى النهاية، تستحضر "جاز العرب" إلى أذهاننا أعمال الروائي الأميركي جيمس إلروي البوليسية. وما يعزز هذه المقارنة هو عنوان الرواية بالذات، المستوحى من عبارة إلروي، "وايت جاز"، التي يفسّرها أحمد للشرطية راشيل بقوله: "وفقاً لإلروي، العبارة تعني ضرباً سافلاً يقف خلفه رجال بيض". عنوان لا يعكس فقط تأثّر مسكه بهذا الكاتب، بل يشكّل أيضاً المفتاح أو "كلمة السر" التي تكشف هوية المجرم الحقيقي في الرواية.
لكن مسكه لا يدين بالكثير لإلروي بقدر ما يدين لتجربته الكبيرة كمخرج أفلام وثائقية؛ تجربة تتجلى في مهارته في تقديم المعلومات ووصف العوالم المقاربة وخلق المناخات المرجوّة لكشف خبث السلطات السياسية والدينية وتلاعبها بمصير أفراد المجتمع، وخصوصاً السذّج منهم.
مهارات تجعل من الرواية عملاً نقرأه بقدر ما نُشاهد فصوله، ولا يتردد مسكه داخله في سلوك دروبٍ ملتوية وتطويع سرده وفقاً لضرورات حبكته المدوخة التي تسمح له بخط صورة دقيقة للطبيعة البشرية وعالمنا اليوم.
ويشدّنا هذا العمل أولاً براهنية الموضوعات التي يقاربها، وتجاوزه للنوع الروائي البوليسي الذي يرتكز غالباً على عنصرَيّ التشويق والتسلية؛ إذ يصوّر مسكه في "جاز العرب"، ببصيرة كبيرة، تشوّهات عالمنا اليوم الذي يتسلّط عليه متشددون من آفاق مختلفة، ورجال شرطة يتفوّقون على المجرمين في فسادهم وإجرامهم؛ عالمٌ تطغى عليه طائفية ضيقة وخطيرة، وتخضع فيه المرأة للختان أو تُجبر على الزواج من رجل لا تعرف شيئاً عنه.
وفي هذا السياق، يحلل بعمقٍ لافت كيف يوقع المتشددون بشبّان مجتمعاتنا التائهين أو المتمرّدين، مبيّناً كيف أن عالمهم هو عالم ذكوري خبيث تطغى عليه سلطة المال والمصالح المادية.
لكن أهمية الرواية لا تكمن فقط في حبكتها المعقدة والمتينة، وراهنية موضوعاتها. ففي أحيانٍ كثيرة، يُخرج مسكه سرده من سكة الواقعية ويذهب به في اتجاه استيهامي وحُلُمي مشبع بالطرافة والسحر. كما نجده يشحن نصّه بمراجع غزيرة تعكس ثقافته الواسعة؛ مراجع سينمائية (شارل لوتون، جان أوستاش، جون هيوستن، سبايك لي...)، وأدبية (بودلير، أرتو، غي دوبور، كونلي، كورنويل، كوبين...)، وموسيقية (باتي سميث، آلان غينسبورغ، بورتيزهد، ديان دوفرن، دينا واشنطن...).
من دون أن ننسى الجانب العاطفي الحاضر كخلفية على طول الرواية، والذي يتمثّل بخروج أحمد من عزلته واستيقاظ مشاعر الحب داخله، تجاه لورا أولاً، بعد مقتلها، ثم تجاه الشرطية راشيل التي ستشاركه مشاعره. جانبٌ يخلق توازناً في الرواية مع العنف والكراهية المتفشيين فيها، ويمنح كريم مسكه الفرصة للتذكير مراراً بأمثولة الحب الذي يهزأ من الحواجز الإثنية والدينية التي تفصل بين البشر.