بعد أن نقلت إلى العربية ثلاثة من أعمال الشاعر التشيلي بابلو نيرودا (1904 – 1973)، هي: ""كتاب التساؤلات" (2006)، و"مائة قصيدة حب" (2009) و"مرتفعات ماتشو بيتشو" (2017) عن "دار أزمنة" في عمّان، صدر مؤخّراً للمترجمة العراقية سحر أحمد عن الدار نفسها كتاب "البحر والأجراس".
تعود قصائد الكتاب إلى المرحلة الأخيرة التي عاشها صاحب "لماتيلدا والحب والفؤوس"، وتضمّنت في غالبها تأملاته لما بعد الموت، وتمتزج فيه الحكمة بالسخرية والتذكّر.
وفي الفترة ذاتها، وضع شاعر تشيلي "مرتفعات ماتشو بيتشو"، الذي يضمّ قصيدة ملحمية يكوّنها إثنا عشر نشيداً تستعيد ما فُقد من حضارات بفعل الحروب أو العوامل الطبيعية، حيث اختار نيرودا المدينة القديمة التي بناها شعب المايا عنوان مجموعته الشعرية، ولم تكن سوى أسطورة يتناقلها الناس قبل أن يتمّ اكتشاف مكانها مطلع القرن الماضي.
"البحر والأجراس" ينتمي إلى تلك المجاميع الشعرية التي عُثر عليها ضمن أوراق صاحب "أحجار السماء" بعد رحيله لتصدر تباعاً بالإسبانية وتُترجم منها إلى لغات أخرى، وضمّت سبع عشرة قصيدة تنحاز إلى الحب وتلك القيم الذي نافح عنها صاحب "القلب الأصفر"، لكن النهاية تظلّ حاضرة أمام عينيه لتحضر في احتمالات عدّة، ربما يكون الرجوع إلى الحياة، حيث يقول في قصيدة "العودة":
"صورُ الموتِ الكثيرة التي تُحدّدُ وجهي
تُنْبئُ بعدم موتي،
لا أقدر على الموت،
تبحثُ عني ولا تجدني
وتتركني إلى ما عندي،
إلى قدري البائس
على صهوة جوادٍ، ضائعٍ
في الفلوات الوحيدة
في أقاصي أمريكا الجنوبية:
ريحٌ وحشيةٌ تهبُّ،
الأشجارُ مَحْنيّةٌ
منذُ ولادتها:
تُقبّلُ الأرضَ،
ذلك السهلُ:
يأتي متأخراً، الصقيعُ
ذو الألفِ سيفٍ
الذي لا ينتهي
عدتُ
من حيثُ أبدأ".
لا تغيب الأسئلة عن بال نيرودا، ربما تبدو المفاتيح التي تمكّن من مراجعة الماضي في أدواره المتعدّدة؛ شاعراً وعاشقاً وإنساناً في حياة حقيقية كما يسمّيها، ويبدو أن ذلك كلّه كان يحضر بقرب البحر وأجراسه، حيث يروى عنه أنه اعتقد بعودته على شكل طائر يأتي من البحر، كما يكتب في إحدى القصائد:
"لم أكبُر، لن أكبُر، لكنني واصلتُ الموت؟
على الأبواب، أعدتُ
صوتَ البحر
والأجراس:
طلبتُ نفسي، بدهشة،
(ثم بيدين مرتجفتين)،
بأجراسٍ صغيرةٍ، بالماءِ،
بعذوبةٍ:
دائماً ما كنتُ أصل متأخراً.
رحلتُ بعيداً عن نفسي،
لم أستطع إجابة سؤالٍ عنها،
غالباً ما كنت لا أسأل منْ أنا".
رغم الشكوك والروايات المتناقضة حول سبب موته واحتمال رحيله مسموماً، والتي أدت إلى نبش قبره وإعادته إليه مرّات، إلّا أن صاحب "النشيد الشامل" يبدو في قصائد تلك المرحلة مستعدّاً لـ"توقّف ما" عن العيش، وأن الغموض الذي يكتنف كثيراً من تفاصيل حياته وكذلك الطريقة التي رحل فيها، يبدو أنه كان ينظر إلى ذلك "الموت" باعتباره استمراراً لحياته أو جزءاً مكمّلاً لها.
هو يريد أن لا يتكلّم طويلاً، وما زال يريد أن يتعلّم، ويريد أن يعرف إن كان موجوداً؛ على هذا النحو يتواجه بابلو نيرودا مع ماضيه وحاضره ومستقبله كأنها ملحمة متكاملة لا تنتهي، وهي حتماً تستدعي أفعال التذّكر، وعدّ الأشياء من حوله، والمشي على مهل، والقيام بكّل الأعمال الروتينية المعتاد عليها، ويلخّصها قوله في قصيدة "هنا":
"جئتُ هنا لأحصي الأجراس
التي تطفو في البحر،
التي تقرع في البحر،
في لُجّة البحر.
ولهذا أنا هنا".