"حربٌ" قديمة حادِثة، هذه التي يتطاير أوارُها، بين الفينة والأخرى، حول أحقية الألسن بالتداول في المغرب الأقصى خصوصاً، وفي الدول التي طاولتها يد الاستعمار عموماً. يتعلّق الرهان الأعمق لهذه الحرب بالهوية، مُحيلاً على عناصر الرمز فيها؛ إذ يتنازعُ الفُرقاءُ حول مضمون الذاتية الأصيل الذي يودّ شعبٌ ما، بمُثقفيه وساسته، صُنعَهُ، وجعلَه عنوانَ وجودهم الاجتماعي في الداخل، وشارة الخصوصية في قرية العالَم.
ولا شكَّ أنّ قرارات الدولة، وهي سياسيةٌ محضة، هي ما يضفي على هذا الصراع طابعاً رسمياً، حين تُبادر بتشكيل ملامح "الهوية الوطنية" وتحديد ما صَدَقَها. ويصبح الدستور ونصوصه القانونية أداة لذلك الترسيم ووسيلة لفرض إرادة الحكومة على الشعب ومفكّريه. ولهؤلاء جميعاً، من أجدادهم، لغاتٌ "أصلية" يودّون إحياءها، لأنَّها مناط التداول في معيشهم اليومي.
وهكذا يقوم مشهد الحرب اللغوية في المغرب على تقابل ثلاثة أطراف نزاعٍ، وكلّ حزبٍ بسلاحهم فَرِحون: أغلبية الشعب وقد عُرِّبت ثقافتها بعد الفتح الإسلامي وما عقبه من موجات هجرة القبائل العربية حتى القرن العاشر، تليها الفئات المثقّفة التي احتكّت بالغرب - منذ حضوره الاستعماري إلى أيامنا - والتي تُنافح عن استعمال لغاته ولاسيما الفرنسية والإسبانية، عنوان انفتاحٍ وآية تثاقفٍ؛ إذ ترى هذه الفئات النجاةَ في استعمال الألسن الأجنبية، وسيلة وحيدةً للتقدّم.
وأمّا الطرف الأخير فمتشبثٌ بلغات المغرب الأصليّة، قبل أن يصل إليه العرب، وهي الأمازيغية بتنويعاتها. ومن هذه الأقسام الثلاثة ظهرت فئاتٌ تدعو إلى استخدام الدارجة -وهي المزيج المتألّف من العربية والأمازيغية وأجنبي الألسن بالاقتراض - واعتبارها اللغة الأم التي "يجب" الاعتماد عليها في التواصل وحتى التدريس.
وصْفُ هذا المشهد المعقّد، الذي جَهدنا في تلخيصه، هو ما انبرى سبعة عشر دارساً، بعضُهم عربيُّ التعبير وبعضهم فرنسيُّه وجلّهم مُزدَوَجهُ، إلى تثبيته في كتاب "المغرب: حرب اللغات"، الصادر مؤخّراً في المغرب عن "دار أون توت لاتر".
وقد افتُتح هذا المؤلَّف الجماعي، الذي صِيغ في لسان فرنسي، بمقدّمة حرّرتها كنزة صفريوي، يشي عُنوانها بهذا التصارع: "حتى نحرّر اللغات من الحُقرة"، والكلمة الأخيرة لفظة دارجة تعني الاحتقار والظلم. ثم تعاقبت بعد ذلك فصولٌ غير مترابطة، تتفاوت في جودتها وأصالتها، بعضها يدافع عن استخدام الفرنسية ويسوّغه بمبرّرات الثقافة والهوية المتحوّلة التي لا يزيدها التلاقح مع لغات الآخر - وإن كان محتلّاً استباح الأرضَ والعِرض- إلّا ثراءً.
ومن ذلك مقال زكية عراقي وقد اعتبرت فيه أن "الفرنسية لغة الآخر، ولكن أيضاً لغتها!"، وعبد الله الطايع الذي قدّم إجابة لسؤال "لِمَ أكتب باللسان الفرنسي؟"، وقد طغت على هذه الفئة من المقالات لهجة المطالبة بالتحرُّر من "أعباء" الفصحى والانفتاح على الدارجة والفرنسية والأمازيغية حتى يحصل التطابق بين التداول اللغوي ومكوّنات الذاتية التي أتاحها التاريخ وسمحت بها الجغرافيا. وبعض المقالات الآخر أقرب إلى الوصفية وبالملاحظة. ومن أمثلتها مقال للكاتب فؤاد العروي بعنوان "حول استحالة معالجة المسألة اللسانية بالمغرب".
وهكذا، فالكتاب لا يحتفي فقط بتنوّع اللغات وبما في تعدُّدها من الغنى، وإنما يصف ما أسفر عنهما من التوتّرات حين تختلط الألسن بالرهانات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وحين يحضر الماضي الاستعماري ويسود منطق الهيمنة الجيوسياسية، فضلاً عما يتّسع من الشروخ التي قسّمت المجتمع المغربي إلى فئات وطبقات متباينة.
ويسفر هذا الجدل عن تمثّلات خاطئة، هي، في هذا العمل، موضوعُ تحليل ومساءلة، ولكنّها أيضاً محدّدات لاواعية، خضع إليها الدارسون أنفسهم مثل الثنائيات الضدية التي أقاموها بين الفرنسية بوصفها لغة "الحداثة"، وكأنّ الحداثة رهينة اللغة، وبين الفصحى التي قَرنوها، تعسّفاً، بالدين الإسلامي، ومثل الدارجة والأمازيغية اللتين قَصروهما أداةً للتواصل اليومي وحاجاته البسيطة، ومثل الحديث عن اختلال ميزان القوى بين هذه الدوائر، بسبب ادّعاء كل واحدة منها احتكار الشرعية، وما يعقب ذلك من إحساس السجّل المغلوب بالظلم.
تواطأ هؤلاء الكُتاب، وليسوا جميعاً من أهل الاختصاص الألسني وإنما دُعاة فكرٍ، على المناداة بالانفتاح والترجمة إيماناً بقيمة التلاقح في إثراء الكفاءات اللغوية والفكرية. وهي مناداة لا تخرج عن مكرور الشعارات التي لا تُبيِّن وسائل تحقيقها، ولا تضع له خططاً ملموسة، فتكتفي بمطالبات، بعضُها مبنيّ على أحكام مسبوقة أو خاطئة.
فقد ذهب الظنُّ ببعض دارسي الكتاب إلى أنَّ مما أجّج أُتون هذه "الحرب" ارتباط العربية بالإسلام. وهذا وهمٌ من أصله وغَلَطٌ في نتائجه. ذلك أنّ الإحساس بالهوية هو الذي يولّد هذا التمسّك؛ تمسكٌ نجده في كل حضارات العالم تقريباً وإن لم تَرتبط بكتاب مقدَّس، إذ القداسة إحدى تعبيرات اللغة، وليست مصدرها؛ فالفرنسيون ينافحون عن لغتهم منافحةَ المسلمين عن العربية، مع أنها لا تتّصل بكتابٍ ولا دين، ولكنها تشدّ الناس إلى تاريخ وذاكرة وثقافة ودولة، أي إلى "هوية وطنية".
وأما الوهم الثاني، وهو في الخطأ أوغلُ، فاستمرار الحديث عن العربية الكلاسيكية كما لو كانت هي لغة التداول اليوم، وهذا بِغَضِّ النظر عن صعوبات تعريفها، حتى بين أهل الاختصاص. وهو وهمٌ يضرب عرض الحائط بمعطىً بديهي؛ فالفُصحى، التي يعدُّونها مصدر هوسهم وارتعادهم، ليست الكلاسيكية، بل هي عربية وُسطى، معاصرةٌ بمفرداتها الدقيقة التي تستعيد سائر مجالات الحياة التي نحياها، حديثة بتراكيبها المفهومة وهي - على عكس ما يظنّه عامّة من لا يشتغل بتطوّرات الضاد - تكاد تقطع كلّياً مع عربية الجاهلية، بل وعربية القرون الوسطى حتى القرن التاسعَ عشرَ.
وثالث الأوهام اعتبار سجل الفصحى لغةً متعالية ثابتة، جمدت من قرون على فضائها السيمائي والنحوي، في حين أنها، اليوم، لسانٌ حيٌّ متحرّك، لا ينفك يتطوَّر ويطوِّر مجالات المعرفة، ويتحرّر من أثقاله ويحرّر حقول الوجود فنّاً وصحافةً وإدارةً وإشهاراً...
على أن من مزايا الكتاب، وربما لم يَقصد إليها، الإشارة إلى أنّ الجدل بين السياسة واللغة هو أحد محاور الدرس اللساني الحديث، أرضٌ بِكر لم يَشتَرعها الفكر العربي بعدُ، ضمن مباحث علم الاجتماع الألسني، بما هو دراسة للعلاقات المتشعّبة التي تنشأ بين جهاز لغوي ما والطبقات الاجتماعية التي يظهر فيها، ممّا يؤكّد ضرورة تدشين هذا الحقل المعرفي الجديد، وموضوعُه الروابط التي قد تنعقد بين اللغة والقانون. ولئن سبق لجرار كورني (1926 - 2007) التوسّع في ألسنية القانون، Jurilinguistique، فإن نظراته إلى القوانين التي تضبط استخدام اللغات كانت موجزةً.
وربما يشكّل المشهد العربي، بسببٍ من تحوّلات الأيديولوجيا القومية وهزّاتها، حقلاً معرفياً مبتكَراً، تُدرَسُ خلاله تغيّرات "الوضع القانوني" للعربية ولغيرها من اللغات في بلداننا. وهو وضع أعقد، ألف مرّة، من أن تنظّمه تلك الجملة الماكرة الملتبسة التي تُزيّن دساتيرنا ديباجةً: "دولةٌ نظامها جمهوري والعربية لغتها الرسمية"، كأنَّ فيها تآمراً بين اللسان والسلطان حتى يُكتفى بها شعاراً يخدّر الوجدان.