يقارب الكاتب والناشط الأردني، هشام البستاني (1975) القصة باعتبارها "حدثاً يماثل الحدث الفيزيائي، حيث يقوم القاص بمراقبة تغيّره وتاريخ حدوثه ومستقبله في عالم يمتلئ بالاحتمالات والإمكانيات وهي المساحة الثرية المولّدة للكتابة"، وفي هذا السياق يرى أن "الكاتب والمتلقي يشتركان في فعل المراقبة؛ حيث توليد النصوص وطرح الأسئلة وتلقّيها وإعادة إنتاجها من جديد، وضمير المتكلّم في القص يعود إلى كليهما".
"شهيق طويل قبل أن ينتهي كل شيء" عنوان مجموعته الجديدة التي صدرت حديثاً عن "الكتب خان" في القاهرة، وفيها يواصل تبديد "الهدوء الكاذب" الذي نطمئن إليه في حياتنا اليومية عبر الهروب من طرح التساؤلات حول الواقع بكل سورياليته ووقاحته.
يبدو السرد هنا فعلاً يناظر وضع العدسة على نقطة ما وتجميع أشعة الشمس عليها، ما يطلق عليه "كتابة بؤرية" وهي تتركّز في سعي حثيث لإيصالنا إلى لحظة الانفجار التي تحضر في معظم نصوصه في قالب من العبثية حيث تتأتى معها حالة البرود والحياد والسخرية السوداء، في استدعاء لسلوك كبار المجرمين والطغاة حين يتصرّفون بارتياح إثر ارتكابهم أفعالهم الدموية.
ينشغل صاحب "مقدّمات لا بدّ منها لفناءٍ مؤجل" (2014) في مقاومة روح العصر الحالي القائمة على "التسلية بغرض الاستهلاك، والإشباع السريع للرغبات"، ويجد في القصة القصيرة "فناً يمثّل المطلق"، متجهاً إلى قارئ عليه أن يبذل جهداً ليصل إلى المتعة التي توصلها الرهبة/ الصدمة في نصوصه.
في هذا الكتاب، اختار لهذه الصدمة أن تعبّر عنها مناخات تقود إليها الرائحة أو الطعم كتمثيل لحاستين غير مدرّبتين، في خيار واعٍ لاستخدامهما، حيث تنبعث الرائحة من الجموع الخائفة على متن السفينة (وهو عنوان النص أيضاً) وما تخرجه من قيء وإفرازات في رحلة هرب من أوطان باتت كالجحيم إلى منافٍ مجهولة، وتعود الرائحة مع حشود اللاجئين المصطفين في طابور لدخول الحمّام، الذي يحضر بوصفه العالم الذي نعيشه بطعم الملح أو الجحيم أو بلا طعم.
حالة الغرق التي نعانيها في الحقيقة والمجاز يمكن اختزالها بالنفس الأخير الذي يأخذه الغريق بكلّ قوته لينتقل بعدها إلى الموت؛ التناقض في أن نستجمع الإرادة كاملةً في التدمير وهي الثيمة الأساسية للعمل الذي استمدّ عنوانه منها، في تقاطع مع حيدر حيدر في فكرة "تخريب الخراب" لينبت ذلك البرعم الأخضر بعد الحريق، بحسب البستاني.
عند نهاية العالم، أو للدقة أكثر عند تخيّل تلك النهاية، ولدت نصوص هذه المجموعة التي تحاكي تلك اللحظة التي يقرّر المرء الانتهاء من كلّ شيء، وهي ليست بعيدة عن واقعنا الذي يمتلك فيه أكثر من زعيم "كبسة زر" تؤهله لسحق عالمنا والقضاء عليه.
لكن منسوب الغضب يتراجع في "شهيق طويل قبل أن ينتهي كل شيء"، كما في مجموعاته الأولى، لصالح كتابة ترصد الواقع وترك مسافة كافية لرؤية تتسع لتفاصيل أكثر وقدرة على التأمّل أبعد فيها وصولاً إلى "حكمة" مشتهاة لدى صاحبها، ربما في "أن الوعي بالعالم لا قيمة له على الإطلاق إلا في إطار إنتاج المعرفة والفن"، وهي عبارة تلخّص لديه معنى "الانتماء الكوني".
يسائِل البستاني واقعه ولا يتسلّط عليه أو على شخوصه، في أربعة أجزاء تضمّنتها المجموعة؛ "الغرق، أو: عن حياةٍ طعمها كالملح"، واستدعى منه دراسة معمّقة في الغرق والفوارق بين الغرقى بحسب اختلاف الماء وطبيعته، وكذلك البحث في أنواع القوارب وكيفية تعرّض كلّ نوع منها للتحطّم أو أن ينقلب بركابه.
يعود الجزء الثاني إلى ما قبل "الشهقة الأخيرة"، "كتاب الرعب أم عن حياةٍ طعمها كالجحيم" ليصوّر التحوّلات التي سبّبت هذا الانهيار الكبير عربياً، وفي الجزء الثالث "كتاب البلادة، أو: عن حياة بلا طعم"، يتواصل العبث بمتتالياته بانتظار نهاية كارثية توشك على الحلول، أما الجزء الأخير "كتاب اليأس، أو: ملاحظاتٌ لن تفيد أحدًا" فتحضر النهاية بوصفها خلاصة التساؤلات والتأملات في كلّ ما جرى.