بترجمة مشتركة بين زهير المدنيني ونور الدين السافي، صدر مؤخراً كتاب "العقل والتاريخ في الحضارة العربية الإسلامية" للمفكر التونسي فتحي التريكي (1947) الذي كتبه بالفرنسية كأطروحة ناقشها في جامعة السوربون عام 1986. وقد نُشر العمل بشكله الأصلي في تونس وفرنسا، وها هو يصدر من جديد عن "مشروع جامعة القاهرة للترجمة" بلغة مؤلفه الأم هذه المرّة.
هكذا ينضاف كتاب "العقل والتاريخ" إلى أعمال كثيرة وضعها مفكّرون عرب بلغات أجنبية قبل أن تجد سبيلاً إلى العربية، ومنها كتبُ أنور عبد الملك وإدوارد سعيد وهشام جعيّط ومحمد أركون وبعضٌ من كتب عبد الله العروي.
في حديث إلى "العربي الجديد"، يقول المترجم زهير المدنيني حول هذه النقطة: "يضطرّ القارئ العربي المهتمّ بالمسائل المطروقة في هذه الكتابات إلى قراءتها بالفرنسية، لما يجد فيها من مقاربات لا تتوفّر في الكتابات العربية، ولحاجته أحياناً إلى مواقف هؤلاء المفكّرين في مسائل مخصوصة، لكن ذلك لا ينفي تزايد اهتمام بعض المترجمين العرب بمؤلفات المفكّرين العرب باللغة الفرنسية أو الإنكليزية وسعيهم نحو ترجمة أكثر ما يمكن منها. في تقديري أنّ نقلها إلى العربية لا يقلّ قيمة عن قيمة كتابتها بلغة أجنبية حتى يتعرّف القارئ العربي إلى موقف وإسهامات المفكّرين العرب على صعيد كوني".
هذا الإسهام العربي على مستوى أوسع من دوائر ثقافتنا نلمسه في كتاب "العقل والتاريخ"، حيث "إنّ القول بوجود فلسفة للتاريخ عند العرب قول جديد يعبّر عن جرأة فكرية"، بحسب المدنيني.
يوضّح ذلك بالقول: "فأن يكون للعرب فلسفة للتاريخ يعني أن نُعيد النظر في مفهوم هذه الفلسفة وهذه الروح التاريخية التي كانت الهيغلية والماركسية أحد أبرز وجوه التعبير عنها. أن يكون للعرب فلسفة للتاريخ يعني أن نعيد تأريخ الفكر الإنساني وخصوصاً فلسفة التاريخ نفسها لكونها إلى اليوم فلسفة تقصي فعل معقولية العربية".
يضيف: "إذا كان القول بفلسفة التاريخ عند العرب في حاجة إلى إثبات، فإنّ هذا الإثبات بدوره، في حاجة إلى عملية استقراء عميقة لتجليات هذا العقل وإنتاجاته، وهذا ما أراد المؤلف إنجازه، ما جعل قراءته مختلفة تماماً عمّا هو مألوف في القراءات التاريخية، ذلك أنّ تناول مسألة العقل في التاريخ العربي أو تاريخ العقل عند العرب أو أيّ تصور آخر، تطلب طَرْق العلاقة المعقّدة بين العقل والتاريخ منذ ظهور الإسلام باعتبار أن الإسلام نفسه هو الذي أعلن ميلاد العقل عند العرب، وأنّ الكلمة القرآنية بما هي كلمة عربية ستصير الكلمة العقلية في تجلياتها المختلفة فكراً وممارسة، نظراً وعملاً".
من خلال هذا الكتاب، يقرأ المدنيني مجمل مشروع التريكي، خصوصاً أنه ثالث عمل يتصدّى له بالترجمة من مؤلفات فتحي التريكي، بعد "الفلاسفة والحرب" و"الهوية ورهاناتها" (أيضاً بالاشتراك مع نور الدين السافي)، وهو يتيح له موقعاً خاصاً في قراءة منجز صاحب كتاب "فلسفة الحياة اليومية".
يقول: "يندرج العمل ضمن المشروع الفلسفي العام للتريكي، الذي يتمحور حول مسألتين: أوّلاً، العمل على إبراز أنّ السبيل الأفضل بالنسبة إلى الإنسانية يكمن في العيش سوياً، وذلك بموجب التحاور المستمر للوصول إلى تحقيق الطموحات المشروعة بعد التعرّف إلى حقيقة الأشياء".
أما ثاني المسألتين فهي "تقصّي مقوّمات هويّة تسعى إلى الانعتاق من هوى الذات ومن كلّ أشكال الحبّ الأعمى لهذه الذات والتعصّب لها، إنّها هوية المفكّر أو الفيلسوف الذي أدرك أنّ هويّة أيّ ذات لن تكون دون استمرارية في التشكّل وإعادة التشكّل ضمن أفق متحرّر من رواسب اليومي وضغوط الموروث، لكن دون أن يفكّ ارتباطه بجذوره والمعين الذي يستمدّ منه أصالته، ودون أن يتغاضى عن أهمية التواصل مع الآخر مهما كان انتماؤه وخطابه والاعتقاد الذي يحمله بالنسبة إلى من يختلف عنه".
وحول خصوصية الترجمة لمفكّر يكتب بالعربية أيضاً، أي أن له فيها أسلوبه الخاص، يقول المترجم التونسي: "كنت من طلبة فتحي التريكي في الجامعة التونسية، وكذلك الشأن بالنسبة إلى زميلي نور الدين السافي، فلا بدّ أن يكون لذلك تأثيره في أسلوب الكتابة واختيار المفاهيم وحتى خطّ التفكير والخيارات المنهجية وغيرها ممّا يقتضيه طابع الكتابة".
يستدرك قائلاً: "لكن هذا العامل وإن كان قد ساعد على تحقيق انسجام النصّ المعرّب مع النص الأصلي، إلّا أنّه لا يمكن أن يمثّل شرطاً أو قاعدة أو حتى مؤشّراً لنجاح عملية الترجمة، خصوصاً أنّ النصّ المعرّب بقدر ما يتطلّب حفاظاً على موقف المؤلّف ومراعاة أطروحته وطبيعة أنظمتها البرهانية وانسجاماً مع مسلّماتها الصريحة والضمنية واستيفاء لأغراضها القريبة والبعيدة، المعلنة والمضمرة... إلّا أنّ ذلك لا يصادر على شخصية المترجم وعلى أصالة الفعل الذي ينجزه من أجل جعل النص الجديد في مستوى النص الأوّل شكلاً ومضموناً".