في مطلع القرن العشرين، شاعت في حواضر عربية عديدة - ومنها بغداد - محلّات يتفرّج فيها الراغبون على صور تتحرّك تباعاً عبر عدسة. كان ذلك محاولة لاستثمار "صندوق الدنيا" الذي كان يحمله أشخاص يتجوّلون بين المدن والأرياف يوزّعون "الفرجة".
ظلّت تلك الصور ثابتة أمام مشاهدين في العراق حتى تحرّكت أمامهم للمرّة الأولى في مساء السادس والعشرين من تموز/ يوليو 1909، حين عُرض أول فيلم في "دار الشفاء" التي سُمّيت لاحقاً بـ"سينما بلوكي"، ضمن موجة الأفلام الصامتة القصيرة التي أُنتجت أوروبياً في تلك الفترة.
في كتابه "سينمات بغداد"، الذي صدر حديثاً عن "مكتبة الحبيب"، يوثّق شفيق مهدي لـ دُور العرض في بغداد في سياقها الاجتماعي والاقتصادي، ويربطها بجملة أحداث بارزة كان لها دور في تطوير قطاع حيوي حتى أفوله في ثمانينيات القرن الماضي.
يمثّل الكتاب جزءاً من سلسلة "موسوعة التراث الشعبي العراقي"، التي قدّم خلالها المؤلّف عدّة أعمال؛ مثل: "مقاهي بغداد"، و"نداءات الباعة وأصحاب الحرف"، و"ألعاب صبيان العراق"، و"خانات العراق وأسواقه"، و"وسائط النقل العراقية القديمة".
يُهدي الكاتب العراقي عمله إلى حبيب الملاك، أحد المؤسّسين الأوائل لدور السينما العراقية، والذي انتبه مع آخرين بعد الحرب العالمية الأولى إلى أن الشاشة الفضية باتت تستهوي الناس ويتقبّلون دفع مقابل لقاء مشاهدة أحدث الأفلام العالمية، فأُنشئت بعد القاعة الأولى "سينما سنترال" عام 1920 والتي استُبدل اسمها بـ"الرافدين"، ثم "سينما العراق" و"رويال" وغيرها.
في 1928، تابع البغداديون أول الأفلام الناطقة ولم يعد أصحاب صالات العرض بحاجة إلى الاستعانة بعازفين يقومون بالعزف أثناء عرض الفيلم الصامت من أجل إبعاد الملل عن المشاهدين، وبعد سنوات قليلة باتت النتاجات السينمائية القادمة من مصر تنافس نظيرتها الغربية، بحسب الكتاب، وتوالى تشييد مزيد من القاعات؛ ومنها "سينما الهلال" في 1932 التي احتضنت أولى حفلات أم كلثوم في العراق.
يشير مهدي إلى أن دُور السينما بدأت في مرحلة لاحقة باستضافة المسرحيات التي تُنتجها فرق مسرحية عراقية، وكانت بدايتها مع المخرج يحيى فائق (1913 - 1983) الذي قدّم فيها العديد من مسرحياته الأولى مثل "القيصر" و"الوطن والبيت".
يقف الكتاب عند الإعلانات التي كان تروّج للأفلام، واختيار الصور التي تُوضع عليها والأسماء وكيفية طباعتها وتوزيعها، سواء بتعليقها على العربات أو الزوارق النهرية أو يحملها أشخاص في الشارع، كما يُنادَى بصوت عالٍ عند بوابة كلّ قاعة بأسماء الأفلام التي ستُعرض تلك الليلة.
يفصّل العمل الاختلافات بين دور العرض الصيفية والشتوية وطبيعة روّادها وطريقة بنائها وترتيب مقاعدها وأسعار تذاكرها، وارتفاع الإقبال عليها حتى زاد عددها عن تسعين قاعة، قبل أن تشهد تراجعاً كبيراً في الثمانينيات لعوامل مختلفة، ما حولّها تباعاً إلى محلّات تجارية أو مبانٍ مهجورة.