اشتبك عدد من الفلاسفة الأوروبيين منذ عصر النهضة بعالم السياسة مستعرضين آرائهم في قضايا عديدة مثل من العقد الاجتماعي والدستور ونظام الحكم وهيكلته، لكنهم ركّزوا بشكل أساسي على القيم الأخلاقية للمجتمعات في النظم الحديثة، ورفضها الحروب والعنف واحترام سيادة الدول بغض النظر عن قوتها ونفوذها.
صحيح أن بعض تلك التنظيرات كانت قائمة على الفلسفة اليونانية والرومانية، لكنها عبّرت عن عصرها من خلال توليدها وجهات نظر راهنة بالتفكير في القانون وغاياته، وفي تظهير خطاب إنسانوي بعيداً عن الميتافيزيقا، وتدخلها في الجدل الديني، ومقارباتها في التاريخ ومتغيراته الذي لم يكن حقلاً مطروقاً من قبل.
"ولادات السياسة المعاصرة.. ميكافيلي، هوبس، روسو" عنوان كتاب الباحث وأستاذ الفلسفة السياسية الفرنسي بيار منان (1949) الذي صدرت ترجمته حديثاً عن "المجمع التونسي للعلوم والآداب والفنون" (بيت الحكمة)، ونقله إلى العربية الباحث والمترجم محمد كراي العويشاي، بمراجعة أنجزها المفكر فتحي التريكي.
يتناول المؤلّف محاولات الفكر السياسي الحديث استكمال ما وضعته الفلسفة الكلاسيكية، متتبعاً مفاهيم أساسية هي "عبادة الحقيقة" لدى الفيلسوف الإيطالي نيكولو مكيافيللي (1469 – 1527)، والعقلانية لدى الفيلسوف الإنكليزي توماس هوبس (1588 – 1679)، و"عبادة القانون" عند الفيلسوف الفرنسي جان جاك روسو (1712 – 1778).
تكمن أهمية الكتاب في إبراز كيفية الاعتماد على منظور "علمي" أو "واقعي"، ومنظور "أخلاقي" أو "مثالي" في تطور الفكر السياسي الحديث من البداية، مقترحاً أنهما في النهاية منظوران لا ينفصلان، إذا لا يمكن فصل اليوتوبيا عن القانون الوضعي.
يشير تقديم الكتاب إلى أن "مهمة بيان منان بدت في قراءاته للولادات المتعدّدة للفكر السياسي الحديث مستعصية. كيف يمكن تجنّب القراءة التاريخية للفكر السياسي الحديث دون التغافل عن طابعها التاريخي، ذلك هو الأساس الذي قاده مستأنساً في ذلك بما هيأه ليو شتراوس من أرضية للتفكير في نشأة هذا الفكر".
ويوضّح أن هذه القراءة تقوم على اعتبار ميكافيللي من ذهب إلى ردم الهوة الفاصلة بين الواقع والفكر. أما هوبس فقد جذّر ذلك عبر بناء السياسة على أساس فكرة الحق التي تتوقّف عند نشأة اللوثيان. أما روسو فهيأ إطاراً سياسياً آخر استأنف فيه التقليد الطوباوي وبه قاوم تبعية الإنسان واسترجع استقلاليته.