أكثر من ثلاثة عقود كان اسم المخرج ستيفن سبيلبرغ مرتبطاً دوماً بالمغامرة والتجارب السينمائية المختلفة عن أي شيء آخر. بنى أسطورته على نجاحات جماهيرية وفنية كبرى مثل Jaws أو E.T أو Schindler’s List وغيرها، وفي كل منها امتلك شيئاً أصيلاً جداً بشأن السينما ليحكيه، وفتح باباً كان مغلقاً قبله.
في السنوات العشر الأخيرة، أصاب سبيلبرغ العجز، لم يعد بنفس الشغف والبحث، أكثر ما يمكن أن توصف به أفلامه، هو التقليدية، الخيال المعتاد للفضائيين المهاجمين للأرض في War of the Worlds، الجزء الرابع من "إنديانا جونز" ظهر بطيئاً ومتعثراً تماماً كما بطله الذي صار في السبعين، ميلودراما مستدرة للعواطف عن الحرب العالمية الأولى في War Horse، وفيلم سيرة ذاتية شديد التقليدية عن Lincoln. كل شيء متوقع ويشبه أفلاماً سبق أن قدمت من قبل.
فيلم سبيلبرغ الجديد Bridge of Spies بدا عند الإعلان عنه مغامرة تستحق الحماس، وعودة محتملة لمخرج كبير فعلاً، ربما تحديداً لأن من يقف وراء كتابة السيناريو فيه، هما الأخوان إيثان وجويل كوين، أحد أهم صناع السينما في أميركا، خلال العقود الثلاثة الأخيرة، والذين تتصف أعمالهم على الأغلب بالدهشة والاختلاف.
يحكي الفيلم عن قصة حقيقية حدثت أثناء الحرب الباردة بين أميركا والاتحاد السوفييتي في ستينيات القرن الماضي، حيث تنتدب وكالة المخابرات المركزية المحامي "جيمس دونفان" من أجل الترافع عن جاسوس سوفييتي قُبض عليه في أميركا، جهود "دونفان" تنجح في تخفيض الحكم عليه من الإعدام إلى السجن المؤبد، قبل أن يذهب في مهمة أبعد في ألمانيا.. هدفها استبدال للجاسوس مع قائد طائرة التجسس الأميركية التي سقطت فوق الأراضي السوفييتية.
أقرأ أيضاً: إنقاذات مات ديمون الأربعة
في نصف الساعة الأولى من الفيلم، تبرز مشكلتان واضحتان، الأولى تتعلق بالدافع، دافع شخصية "دونفان"، المحامي الذي يعمل أصلاً في التأمين، لأن يأخذ تلك القضية الشائكة، المخابرات طلبت منه ذلك.. ولكنه لا يملك دافعاً شخصياً حقيقياً، أو لم يتم العمل في سيناريو الفيلم على تقوية هذا الدافع، سواء في كونه نموذجاً (للأميركي المثالي) الذي يؤمن بالقانون والدستور أو في علاقته بـ"آيبل" الجاسوس، بل إن مشاعره تتحول من (القبول على مضض) إلى (الحماس) ومواجهة المجتمع وتعريض حياته وحياة أسرته للخطر من أجل عدو لا يعرفه من الأصل، ولم يعطِ الفيلم لعلاقتهم المساحة الكافية لخلق (تورط) من المشاهد، أو تقوية دافع المحامي في قضية كتلك.
المشكلة الثانية، هي نفس مشكلة سبيلبرغ، وهي (التقليدية). الفيلم منذ البداية يصنع ثنائية (الفرد الصائب في مواجهة المجتمع الهيستيري)، ومنذ البداية تكون واضحة تلك المراحل التي ستمر بها الحكاية، رفض "دونفان" واحتقاره، تقبله والتفكير بجهوده، وصولاً لتقديره ومعاملته كـ"بطل" في نهاية الفيلم. النبرة الأميركية جداً في الفيلم مزعجة، وتوقع كل ما يحدث، منذ البداية، أكثر إزعاجاً.
في المقابل لا يخلو الفيلم من مميزات، أولها وأهمها هو أداء الممثل، مارك ريلانس، الرائع جداً لشخصية الجاسوس السوفييتي، والكيمياء الواضحة بينه وبين توم هانكس، لقد أعطيا عمقاً غير موجود أصلاً على الورق. كذلك الفيلم متقن على المستوى السينمائي، يانوش كامينيسي – مصور "سبيلبرغ" المفضل ــ يتألق هنا في عدد من المشاهد التي يستفيد فيها جداً من النور والظل.
أقرأ أيضاً: بعد 30 عاماً... دكتور براون يعود مرة أخرى
كيف عالجت السينما الأميركية الحرب الباردة؟
في أحد مشاهد Bridge of Spies، والذي يعرض حالياً في دور السينما، يخبر الابن والده أنه يجب أن يملأوا حوض الاستحمام بالمياه لأن الحرب النووية حين تبدأ سيتم قطع الكهرباء والمياه من البداية، لقد أخبروا الطفل بذلك في المدرسة، والمشهد كان أكثر لحظات الفيلم التقاطاً لرعب وهوس الحرب الباردة في المخيلة الأميركية.
هل كانت الحرب الباردة حقيقة أم أنها خدعة سياسية وتضخيم إعلامي من أجل استفادة الحكومة الأميركية من وجود (العدو)؟ أيّاً كانت الإجابة.. المؤكد أن السينما ساهمت في خلق صورة (الشيطان السوفييتي) في الأفلام، باستثناء فيلم واحد شديد العدمية رأى الأمر كله ليس أكثر من مجرد لهو يمكن أن ينتهي عنده العالم. يمكن النظر إلى بعض الأفلام المهمة في مراحل مختلفة التي تناولت الحرب الباردة بجدية كتجسيد للصورة الرسمية، جيمس بوند، بالطبع، جزء أساسي من ذلك، في الأجزاء الأولى من أفلامه، وعلى رأسها From Russia with Love عام 1963، هناك تكرار دائم للعدو السوفييتي الذي يهدف لتدمير العالم، في مقابل (البطل) والجاسوس الشعبي الذي ينقذ الجميع.
تلك الصورة يمكن متابعتها في صورة أوضح في الجزء الرابع من سلسلة أفلام الملاكمة Rocky، الفيلم الذي صدر عام 1985، يلتقط الحس الأميركي الشعبوي جداً في فكرة (الحرب الباردة)، حيث يشعر "روكي" بالرغبة بالثأر من الملاكم السوفييتي لذا سيواجهه، قبل أن ينتصر في النهاية متلفحاً بالعلم الأميركي في لحظة انتصار مفترضة للأمة.
فيلم The Hunt for Red October عام 1990، يحاول صنع مغامرة عن غواصة نووية سوفييتية تستهدف أميركا، كما أن فيلم Tinker Tailor Soldier Spy عام 2011، يتعامل بشكل جاد مع عوالم الجاسوسية أثناء الحرب الباردة، ضمن مبالغات جيمس بوند أو التصور الذي خلقه عن عمل المخابرات الممتلئ بالرصاص والمطاردات.
في مقابل تلك الأفلام، المتنوعة والمختلفة، التي تتعامل مع الحرب الباردة برؤية رسمية، هناك فيلمان مهمان جداً لا يهتمان بكل ذلك، واحد منهما هو Good Night, and Good Luck من إخراج جورج كلوني، وبطولته مع ديفيد ستراثان عام 2005. أما الفيلم الأهم، والأكثر تأثيراً وكلاسيكية، ويعتبر أهم عمل تناول الحرب الباردة، فهو فيلم Dr. Strangelove للمخرج ستانلي كوبريك عام 1964، الكوميدية الكابوسية السوداء يسخر فيها من هوس الجانبين نحو امتلاك القوة النووية، وأن الأمر لا يتجاوز مجرد "الخبل" واللهو الذي يمكن له أن يدمر العالم.
أقرأ أيضاً:أفضل 10 أفلام رعب في الألفية الثالثة
في السنوات العشر الأخيرة، أصاب سبيلبرغ العجز، لم يعد بنفس الشغف والبحث، أكثر ما يمكن أن توصف به أفلامه، هو التقليدية، الخيال المعتاد للفضائيين المهاجمين للأرض في War of the Worlds، الجزء الرابع من "إنديانا جونز" ظهر بطيئاً ومتعثراً تماماً كما بطله الذي صار في السبعين، ميلودراما مستدرة للعواطف عن الحرب العالمية الأولى في War Horse، وفيلم سيرة ذاتية شديد التقليدية عن Lincoln. كل شيء متوقع ويشبه أفلاماً سبق أن قدمت من قبل.
فيلم سبيلبرغ الجديد Bridge of Spies بدا عند الإعلان عنه مغامرة تستحق الحماس، وعودة محتملة لمخرج كبير فعلاً، ربما تحديداً لأن من يقف وراء كتابة السيناريو فيه، هما الأخوان إيثان وجويل كوين، أحد أهم صناع السينما في أميركا، خلال العقود الثلاثة الأخيرة، والذين تتصف أعمالهم على الأغلب بالدهشة والاختلاف.
يحكي الفيلم عن قصة حقيقية حدثت أثناء الحرب الباردة بين أميركا والاتحاد السوفييتي في ستينيات القرن الماضي، حيث تنتدب وكالة المخابرات المركزية المحامي "جيمس دونفان" من أجل الترافع عن جاسوس سوفييتي قُبض عليه في أميركا، جهود "دونفان" تنجح في تخفيض الحكم عليه من الإعدام إلى السجن المؤبد، قبل أن يذهب في مهمة أبعد في ألمانيا.. هدفها استبدال للجاسوس مع قائد طائرة التجسس الأميركية التي سقطت فوق الأراضي السوفييتية.
أقرأ أيضاً: إنقاذات مات ديمون الأربعة
في نصف الساعة الأولى من الفيلم، تبرز مشكلتان واضحتان، الأولى تتعلق بالدافع، دافع شخصية "دونفان"، المحامي الذي يعمل أصلاً في التأمين، لأن يأخذ تلك القضية الشائكة، المخابرات طلبت منه ذلك.. ولكنه لا يملك دافعاً شخصياً حقيقياً، أو لم يتم العمل في سيناريو الفيلم على تقوية هذا الدافع، سواء في كونه نموذجاً (للأميركي المثالي) الذي يؤمن بالقانون والدستور أو في علاقته بـ"آيبل" الجاسوس، بل إن مشاعره تتحول من (القبول على مضض) إلى (الحماس) ومواجهة المجتمع وتعريض حياته وحياة أسرته للخطر من أجل عدو لا يعرفه من الأصل، ولم يعطِ الفيلم لعلاقتهم المساحة الكافية لخلق (تورط) من المشاهد، أو تقوية دافع المحامي في قضية كتلك.
المشكلة الثانية، هي نفس مشكلة سبيلبرغ، وهي (التقليدية). الفيلم منذ البداية يصنع ثنائية (الفرد الصائب في مواجهة المجتمع الهيستيري)، ومنذ البداية تكون واضحة تلك المراحل التي ستمر بها الحكاية، رفض "دونفان" واحتقاره، تقبله والتفكير بجهوده، وصولاً لتقديره ومعاملته كـ"بطل" في نهاية الفيلم. النبرة الأميركية جداً في الفيلم مزعجة، وتوقع كل ما يحدث، منذ البداية، أكثر إزعاجاً.
في المقابل لا يخلو الفيلم من مميزات، أولها وأهمها هو أداء الممثل، مارك ريلانس، الرائع جداً لشخصية الجاسوس السوفييتي، والكيمياء الواضحة بينه وبين توم هانكس، لقد أعطيا عمقاً غير موجود أصلاً على الورق. كذلك الفيلم متقن على المستوى السينمائي، يانوش كامينيسي – مصور "سبيلبرغ" المفضل ــ يتألق هنا في عدد من المشاهد التي يستفيد فيها جداً من النور والظل.
أقرأ أيضاً: بعد 30 عاماً... دكتور براون يعود مرة أخرى
كيف عالجت السينما الأميركية الحرب الباردة؟
في أحد مشاهد Bridge of Spies، والذي يعرض حالياً في دور السينما، يخبر الابن والده أنه يجب أن يملأوا حوض الاستحمام بالمياه لأن الحرب النووية حين تبدأ سيتم قطع الكهرباء والمياه من البداية، لقد أخبروا الطفل بذلك في المدرسة، والمشهد كان أكثر لحظات الفيلم التقاطاً لرعب وهوس الحرب الباردة في المخيلة الأميركية.
هل كانت الحرب الباردة حقيقة أم أنها خدعة سياسية وتضخيم إعلامي من أجل استفادة الحكومة الأميركية من وجود (العدو)؟ أيّاً كانت الإجابة.. المؤكد أن السينما ساهمت في خلق صورة (الشيطان السوفييتي) في الأفلام، باستثناء فيلم واحد شديد العدمية رأى الأمر كله ليس أكثر من مجرد لهو يمكن أن ينتهي عنده العالم. يمكن النظر إلى بعض الأفلام المهمة في مراحل مختلفة التي تناولت الحرب الباردة بجدية كتجسيد للصورة الرسمية، جيمس بوند، بالطبع، جزء أساسي من ذلك، في الأجزاء الأولى من أفلامه، وعلى رأسها From Russia with Love عام 1963، هناك تكرار دائم للعدو السوفييتي الذي يهدف لتدمير العالم، في مقابل (البطل) والجاسوس الشعبي الذي ينقذ الجميع.
تلك الصورة يمكن متابعتها في صورة أوضح في الجزء الرابع من سلسلة أفلام الملاكمة Rocky، الفيلم الذي صدر عام 1985، يلتقط الحس الأميركي الشعبوي جداً في فكرة (الحرب الباردة)، حيث يشعر "روكي" بالرغبة بالثأر من الملاكم السوفييتي لذا سيواجهه، قبل أن ينتصر في النهاية متلفحاً بالعلم الأميركي في لحظة انتصار مفترضة للأمة.
فيلم The Hunt for Red October عام 1990، يحاول صنع مغامرة عن غواصة نووية سوفييتية تستهدف أميركا، كما أن فيلم Tinker Tailor Soldier Spy عام 2011، يتعامل بشكل جاد مع عوالم الجاسوسية أثناء الحرب الباردة، ضمن مبالغات جيمس بوند أو التصور الذي خلقه عن عمل المخابرات الممتلئ بالرصاص والمطاردات.
في مقابل تلك الأفلام، المتنوعة والمختلفة، التي تتعامل مع الحرب الباردة برؤية رسمية، هناك فيلمان مهمان جداً لا يهتمان بكل ذلك، واحد منهما هو Good Night, and Good Luck من إخراج جورج كلوني، وبطولته مع ديفيد ستراثان عام 2005. أما الفيلم الأهم، والأكثر تأثيراً وكلاسيكية، ويعتبر أهم عمل تناول الحرب الباردة، فهو فيلم Dr. Strangelove للمخرج ستانلي كوبريك عام 1964، الكوميدية الكابوسية السوداء يسخر فيها من هوس الجانبين نحو امتلاك القوة النووية، وأن الأمر لا يتجاوز مجرد "الخبل" واللهو الذي يمكن له أن يدمر العالم.
أقرأ أيضاً:أفضل 10 أفلام رعب في الألفية الثالثة