"إنانا" فاطمة مرتضى.. حياكة الأسطورة

13 فبراير 2022
من المعرض
+ الخط -

الدخول الى معرض فاطمة مرتضى يحمل لأصحابه مفاجأة. ما ينتظرهم غير ما أوحت به الدعوة، بل ما أوحت به الصور الفوتوغرافية لأعمال الفنانة، التي تبدو هكذا، من بعيد، وكأنها مفردات أو رسوم مصاحبة لنص أو فكرة. 

المعرض، الذي احتضنته غاليري "أل تي" ببيروت، يحمل اسم "إنانا" الذي هو أحد أسماء عشتار، إلهة الحب والخصب، توحي صور أعماله الفوتوغرافية بأنها رسوم زخرفية لوجه حيواني بالأسود والأبيض، وبقرنين، يخرج من داخل شكل أنثوي على صفحة فارغة تماماً، لكن رؤية المعروضات من قرب تنقلنا إلى رؤية أخرى: الرأس الحيواني الذي قد يكون غالباً لثور، يخرج من جسد أنثوي، هو عبارة عن حياكة بخيوط سوداء، توازي من بعيد خطوطاً مرسومة، لكنها مع ذلك خياطة فحسب. 

إذا تأملنا أكثر في هذه الخيوط - الخطوط، بدا لنا جسدٌ يملك انتظاماً زخرفياً. فالأعمال هي من ناحية أخرى، أعمال حياكة، ووراء الرسم ما يبدو أنه تصميم لثور من وراء شكل أنثوي، بل يبدو وكأنه رسم بالخيوط. أي أن العمل يتراوح بين التعبير الزخرفي، الحرفة، وأشغال الخياطة وتصميم الأزياء والمتواليات الزخرفية، وبين التشكيل والفن البحت. 

إننا هكذا أمام تكوين زخرفي، لكن بزخم تعبيري. الرأس الحيواني الذي قد يكون لثور أو خنزير، إذا استرجعنا أسطورة عشتار. الرأس هذا المرسوم بالأسود والأبيض بقرنين ملوّنين غالباً بالأحمر، يبدو وكأنه عنوان لوحة، إذا جازت هذه التسمية. إنه يملك قوة تعبير وحضوراً يراوح بين القسوة/العنف، وبين الحيوانية الصارخة، وهو هكذا، بما فيه من حضور وحشي، يُضفي علي العمل كله مفتاحاً حسياً جسدانياً عامراً بالشهوة والطاقة. 

في إطار واحد نجد زواجاً بين الفكرة والخيال والحرية

إنه مدخل شهواني لجسد أنثوي مليء بالشاعرية والانتظام بالخيوط، جامعاً في الوقت نفسه بين الجسد الشاعري والنمنمة والتنغيم والإيقاع والزخرفة من ناحية، وبين الخياطة والتصميم والحرفة والتخريم والسلاسة والزي المتواري خلف الجسد السلس والمنغّم. أي أننا في الوقت نفسه نحصل على إيعازات متفارقة: الأسطورة المستعادة، ليست فقط بالرأس الحيواني الذي يخترق الشكل بما يشبه الهيمنة الجنسية والجسدية، والقرنين اللذين يوعزان بالرغبة والشهوة، ولكن أيضاً بالشكل الأقرب إلى أن يكون نحتياً، شكل نصبي يشبه أن يكون وثناً معبوداً، بقدر ما هو استعادة أسطورية للرغبة والوصال الجسدي. 

الإيعاز الأسطوري والجسدي هنا يسقط على إيعاز آخر، مردّه الحرفة والشغل بالأيدي والخيطان، أي أننا، في عمل واحد، نزاوج بين الأسطورة السحيقة، المحتفظة مع ذلك بطاقتها ومصدرها الحسي، وبين الشغل اليومي والحرفة التي تراوح، بين التصميم المختفي في أعمال، والظاهر في أعمال أخرى. 

الحرفة التي لا تمانع من أن تُظهِر، ليس فقط الخيوط والقماش، ولكن أيضاً الزي المصمّم والمعلق على اللوحة بما يشبه البوب آرت. هنا يبدو الفن والحرفة، بل الفن والمادة والصناعة شيئاً واحداً. هكذا نستعيد، على نحو ما، نظرية البوهاوس وما جرّته من تجارب شتى. إننا هكذا نجد الفن في الحرفة، بل نجد النمنمة وقد زاوجت الشغل اليدوي، والاثنان يشتركان في عمل طموحه المزدوج، هو أن يجمع في عمل واحد، الفكرة والمخيلة والخط واللون مع الحضور اليومي والشغل اليدوي.

فاطمة مرتضى

تستحضر فاطمة مرتضى في معرض موازٍ الأزياء المصممة المختفية وراء اللوحات، والخارجة منها، إذ إن أعمال معرضها توحي هكذا بأنها من ناحية أخرى، وعلى أي نحو من الأنحاء، في حقيقة الأمر مشاريع حِرفية. أي أن الأسطورة والزخرفة والتشكيل تضمر في داخلها هذه الأزياء التي ليست سوى استبطان لها وإيعاز بها. هكذا نجد أنفسنا أمام نوع من البوب آرت، يصل خطوة خطوة من الأسطورة لا إلى الواقع وحده فحسب بل، إلى الحياة اليومية والشغل اليدوي. 

يمكننا هكذا أن نتكلم لا عن الإحكام والمتانة فحسب، بل أيضاً عن السلاسة والشاعرية والإيقاع. هنا في عمل واحد نجد زواجاً بين الفكرة والخيال والحرية. 


* شاعر وروائي من لبنان

المساهمون