تختص زاوية "صدر قديماً" بتقديم قراءات في كتب عربية مرّت عقود على إصدارها وما زالت تنبض براهنية تستدعي قراءتها واستعادة أصحابها. تمر غداً الذكرى الرابعة لرحيل عالم الاجتماع المصري السيد ياسين (1933 - 2017) وهنا عودة لكتاب يضيء علاقته بالأدب.
حين صدر أوّل مرّة في 1970، بدا أنّ أهمّية كتاب الباحث المصري السيد ياسين "التحليل الاجتماعي للأدب" تكمن في كونه يقدّم للقارئ العربي حقلاً معرفياً لم تصل مفاهيمه ومقارباته إلى الثقافة العربية بعدُ.
هذا صحيح، غير أنّ موطن أهمية الكتاب يقع في مكان آخر، أنّه يقدّم بشكل ما سيرة باحث ومن ورائها بيئة البحث في العلوم الاجتماعية ومناخاتها في ستينيات القرن الماضي. وأيضاً، يقدّم العمل تاريخ المجال المعرفي الذي يتناوله، فمن خلال محاولته تأصيل مقولات علم اجتماع الأدب، يستدعي ياسين مجمل مشهد المرجعيات النظرية لهذا الحقل، فنتعرّف معه على مساهمات جورج لوكاتش، ولوسيان غولدمان، وألبير ممّي، ورينيه جيرار (...) وكانت أعمالهم حديثة للغاية في ذلك الوقت، فلا يفصلها عن عرض ياسين لها إلاّ سنوات قليلة، وهو مستوى نلمس من خلاله قيمة مضافة أخرى للكتاب بتخطّي فارق معرفي مع الغرب في زمن قصير.
باختصار، يمثّل العمل محاولة لتأصيل علم اجتماع الأدب ضمن توجّهين متوازيين؛ فهمه في بيئته الأولى، ومن ثمّ غرسه في إشكاليات حيّة في البلاد العربية، إما ببيان اشتباك المؤلف شخصياً مع هذه الإشكاليات أو بالبحث عن مجالات تطبيق عربية كإشارته إلى قضايا الأجيال الأدبية، وتناول الأدب للانحراف، وفهم ظاهرة الأدب غير المنشور.
بشكل معلن وواع، يأخذ ياسين مسافة من أنماط الكتابة البحثية بضخّ مقالات كتابه ببعض الإشارات الذاتية. يظهر ذلك بشكل جليّ في المقدّمة العامة، وفيها نجد نبرة اعترافية حين يشير المؤلف إلى ميولاته الأدبية الأولى، وأنّه قد قمع كلّ ارتباط بالأدب حين انشغل بدراسة العلوم الاجتماعية. لكنّه انتبه - وهو الذي حصّل مجموعة أجهزة مفاهيمية لدراسة المجتمع- أنّ بعض الروايات، كأعمال نجيب محفوظ ويوسف إدريس، كانت تقدّم عدسات تتيح فهم ظواهر المجتمع المصري وتحوّلاته بدقّة أكبر.
يدعو الباحثين في علم الاجتماع إلى تعلّم قراءة الأدب
أيّ سبب، إذاً، يبرّر تجاهل علم الاجتماع للأدب كظاهرة تستحق الدراسة؟ يروي لنا ياسين أنّ سؤال القطيعة بين الأدب وعلم الاجتماع شغله، ولكنّه بقي قضية معلّقة لا يجرؤ على النبش فيها. ويبدو وكأنّه يلوم نفسه، وينقد ضمنياً الخطاب السائد في العلوم الاجتماعية، حين يقول: "حين خطوتُ أولى خطواتي في طريق البحث الشاق، أخذتُ على نفسي عهداً أن أقطع صلتي تماماً بتجاربي في الكتابة الأدبية خشية أن تطغى بلاغة الأسلوب الأدبي على الدقة المطلوبة في التعبير العلمي. بل إنّني - أكثر من ذلك - توقفت لسنوات عن متابعة الإنتاج الأدبي حتى أتفرّغ تماماً للتكوين العلمي"، وانطلاقاً من هذا السياق الذاتي يفسّر لاحقاً كيف "بعُدت الشقة بين العلم والأدب".
نتبيّن هنا أنّ النبرة الاعترافية التي تظهر في كتاب "التحليل الاجتماعي للأدب" لم تأتِ اعتباطاً أو بحثاً عن التأنق الأسلوبي، لقد كانت منهجاً يهدف إلى تعميق الحفرة التي سيغرس فيها المؤلف إشكالية كان من مخرجاتها اهتمامُ السوسيولوجيين بالأدب.
على الرغم من تبلور قضية القطيعة غير المبرّرة بين المجالين في ذهنه، لم يتقدّم ياسين خطوة في هذا الاتجاه. ثم حدث أن أُرسل في بعثة دراسية إلى فرنسا عام 1964، وامتدّت إقامته فيها ثلاث سنوات صادفت مرحلة كانت فيها إشكالية علاقة الأدب بالمجتمع وتاريخه من بين أكثر القضايا السجالية حضوراً في الأوساط النخبوية، بل أكثر من ذلك، تقابل السنوات التي أقام فيها ياسين في فرنسا مرحلة يمكن أن نسمّيها "مخاض" تأسيس فرع معرفي جديد هو علم اجتماع الأدب.
بدا للباحث المصري أنّه وجد أخيراً الجسر الذي يربط بين القارتين، ليبدأ بحماسة وبجدّية في نقل المعرفة الجديدة إلى ثقافته الأم. ربما، لو لم تكن مسألة القطيعة بين الأدب والسوسيولوجيا إشكالية متأصلة في ذهنه، ما كان سيتفطّن إلى ذلك الصخب المعرفي الذي يمور في باريس وقتها.
تقدّم الرواية معرفة بالمجتمع لا تبلغها المفاهيم العلمية
يضيء الباحث المصري، في مواضع كثيرة من كتابه، على سجالات الساحة الثقافية الفرنسية بشيء من التفصيل. كان يحاول إعادة تركيب كلّ المناخ الذي تبلور فيه علم اجتماع الأدب، من منطلق أنّه لا معنى لنقل مجموعة من "الوصفات العلمية" من دون فهم التربة التي نشأت فيها.
ولكي يثبت ياسين أهمية الأدب في الدرس السوسيولوجي، يضرب منذ مقدّمته ثلاثية نجيب محفوظ كمثال قريب من ذهن القارئ العربي. إنّها نموذج بارز نرى فيه بوضوح إمكانية استفادة عالم الاجتماع من الأدب.
من منظور علميّ بحت، يبيّن هذا العمل كيف تَفكّك المجتمع التقليدي في مصر خلال الثلث الأول من القرن العشرين، وهو ما لا تشرحه أيّ نظرية اجتماعية لأنّ هذا التفكّك ممتدّ زمنياً ومبعثر بين الناس، في حين أنّنا نجده مكثّفاً في أُسرة عبد الجواد ومتجسّداً في شخصياتها.
يشير ياسين أيضاً إلى رواية "ثرثرة فوق النيل" باعتبارها عملاً آخر لمحفوظ يمكن لعلم الاجتماع استعارته من الأدب ليجد فيه القارئ رؤية شاملة ونقدية عن المجتمع المصري في منتصف الستينيات. يلتقط ياسين ما قيل عن العمل، بُعيد النكسة؛ إنّه أشبه بنبوءة لما حدث في 1967. كيف يمكن لعمل أدبي أن يتنبّأ بحدث واقعي؟
بالنسبة لعالم الاجتماع، يعني ذلك أنّ الفرضيات التي تحكم المجتمع المتخيّل الذي اقترحه نجيب محفوظ ذات نجاعة واقعية، إنّها مجتمع مواز يعمل بنفس ميكانيزمات مجتمعنا، لكن بشخصيات لا نعرفها، ومن ثم يذهب نحو نتائج يمكن أن نصل إليها في الواقع. وفي الوقت الذي يمكن للأدب أن يذهب فيه إلى مثل هذا الحدّ من تصوّر المآلات، لا يبدو الباحث الاجتماعي قادراً على ذلك، ليس لأسباب قمعية بالضرورة، بل لأنّ الباحث يتهيّب من استشرافاته خوف أن تبدو آراء شخصية، في حين لا يلتفت الكاتب إلى مثل ذلك، بل إنّ الأدب عبارة عن مَحميّة يجد فيها المؤلف مخابئ كي يُفلت من الكثير من التقييدات والإكراهات.
هكذا، فإنّ ما يكسبه عالمُ اجتماعٍ يقرأ الأدب هو معرفة مُسبقة ومكثّفة عن المجتمع يمكن أن يختبرها في الواقع. وهذا المعطى له أهمية إبستيمولوجية في علم الاجتماع، إذ إنّه يحمي الباحث من أدواته فينقدُها في فضاء صغير قبل الخروج بها إلى الشارع، كما يتيح لها مجال اختبار أوّلي على مجتمع مفترض قبل أن يتصدّى لإشكاليات مجتمع واقعي في عالم صاخب ومضطرب.
بعبارة صريحة، يقول ياسين: "نحتاج كباحثين في العلوم الاجتماعية أن نتعلّم قراءة الأدب"، وهو نوع من التواضع قلما يأتي من البيئة الأكاديمية. ولعلّ من ألطف أشكال التواضع أنّه يسمّي الكاتب بـ"الخالق الأدبي" مقابل "الباحث الاجتماعي". الخالق الأدبي، بالنسبة لياسين، لا يقلّ أهمية عن الباحث الاجتماعي في تطوير المعرفة بالمجتمع، بل إنّ له فرصاً كي يتجاوزه، وما على الباحث إلاّ أن يكون مرناً ويستفيد مما يكتب "الخالق الأدبي".
لكنّ علم اجتماع الأدب لا يعني فقط التقاط مقولات الروائيين والذهاب لاختبارها في الحياة اليومية. توجد الكثير من الإشكاليات الأخرى التي يستعرضها ياسين في فصول كتابه مثل فهم ميولات الجمهور، وتفسير بعض الظواهر الأدبية، وأثر الأصول الطبقية للكاتب على أعماله.
تبقى محاولة تفسير هيمنة الرواية على عالم الأدب منذ القرن التاسع عشر الانشغال الأبرز في سوسيولوجيا الأدب، وهو ما يعتني ياسين بتقديمه للقارئ العربي فيستحضر بشكل دقيق أهم التنظيرات في هذا السياق، وهنا يتفرع الحديث إلى دوائر أوسع في تقاطعات مع التاريخ الاقتصادي وسير المؤلفين وحكايات أعمالهم.
تظل المقولة المهيمنة في هذا الإطار - وقد طرحها غولدمان - أنّ الرواية تجسيد لانتصار ثقافة طبقة البورجوازية، وأنّها توافق تغلغل المنطق الليبرالي في حياة الناس، وكما تطحن الرأسمالية مجموعة من السلوكات وأشكال العلاقات الاجتماعية فتأتي بأخرى فهي تمسح من خارطة الأدب أجناساً وتكرّس أشكالاً إبداعية بعينها.
حين صدر أوّل مرة، كان كتاب "التحليل الاجتماعي للأدب" أشبه بنقل الصفحة الأخيرة في عالم النظرية الأدبية. حظي العمل بطبعات لاحقة (1982، 1991، 2007) لكنّنا لا نجد - في ما عدا وضع مقدّمة جديدة لكلّ طبعة - أيّة إضافات.
يوجد تفسيران لذلك، أوّلهما نجده في الكتاب نفسه حين يشير ياسين إلى أنّ علم اجتماع الأدب بعدما تهيّأت له الظروف كي يتأسّس ويصبح إحدى المقاربات المعترف بها للنص الأدب، بقي مشتتاً ومضطرب المنهجيات، وهو ما أعاق نموّه.
أما التفسير الثاني، فهو خمود جذوة متابعةِ جديد التنظير في العلوم الاجتماعية عربياً. إنّها ملاحقة تحتاج إلى نفَس طويل وإرادة لا تكسرها الهزّات، وما أكثرها في الثقافة العربية.
لو أنّنا قارنّا ما في كتاب السيّد ياسين من عرض للنظريات بالمتداول اليوم ضمن الحياة البحثية العربية، لما وجدنا بضاعة تختلف كثيراً عما جرى نقله في ستينيات القرن الماضي.
أيضاً، يجدر بنا أن ننتبه إلى رسالة ضمنية تعبر كلّ الكتاب. لقد كان احتفاء الباحث المصري بالأدب نابعاً من كونه وجد - بمعرفته السوسيولوجية - في عدد من الروايات ما يفتح عينيه على ظواهر لا تكشفها مفاهيم علم الاجتماع. إنّه يشير إلى دور للأدب قليلا ما نتحدّث عنه عربياً؛ تغذية جميع الحقول المعرفية والربط بينها. هل يؤدّي الأدب العربي اليوم هذه الوظيفة على أحسن وجه؟