في 2011، دُعي السيميولوجي والكاتب الإيطالي أومبرتو إيكو (1932 - 2016)، لإلقاء محاضرة ضمن مهرجان أدبيّ أقيم في ميلانو. كان الموضوع الذي اقترحه عليه المنظّمون هو الحقيقة والكذب، موضوع واسع أشبه بمحيط، طُلب من إيكو تحديداً أن يحاضر فيه، وأن يستدعي موسوعيّته المعروف بها، فيطوف بالحضور بين الأدب والتاريخ والفلسفة والسياسة.
لكن إيكو، وهو يتأمّل الموضوع المطلوب، اكتشف - على عكس لحظة التلقي الأولى له - أن مسيرته المعرفية كانت عبارة عن خوض في قضية الحقيقة والكذب لتصبح محاضرته "التعرّف على الخطأ" عبارة عن ملخّص طريف لمسيرته العلمية، وخصوصاً في مجال السيميولوجيا؛ المنطقة التي بقيت مسيّجة في مدوّنته لا يدخلها جمهور القرّاء الواسع.
بعد إلقائها، عاد إيكو إلى المحاضرة وطوّرها إلى محاولة صدرت في كتاب جمع فيه كتابات متنوّعة، ومؤخراً، صدرت النسخة الفرنسية من هذه المحاضرة مفردة في كتيّبٍ عن منشورات "غراسيه" بترجمة مريم بوزاهر.
يتضمّن الإصدار مقدّمة للناشر تبرّر إفراد كتاب مستقلّ للمحاضرة، فمع صعود الشعبوية السياسية، وإغراق الفضاء العام بالأخبار الزائفة، والتأثير المتزايد للعالم الافتراضي، بات استدعاء أدوات فكرية لتفادي أخطار هذه الظواهر ضرورة، و"من أفضل من إيكو" لإسداء هذه الخدمة؟
التعرّف على الخطأ وهم آخر من أوهام العقل البشري
حين طُلب منه التفكير في مسألة الكذب عام 2011 تذكّر إيكو أنه عام 1975 قد كتب في عمل بعنوان "مصنّف في السيميولوجيا العامة" أن العلامة (المفهوم المحوري للسيميولوجيا) هي "كل ما يمكن أن يكون وسيلة للكذب"، وبذلك ناقش التعريف المكرّس للعلامة بكونها بديلاً عن أي شيء من الواقع، وهنا يضرب مثلاً طريفاً، حيث يذكر أن الدخان الذي يظهر من حطب يحترق أمامنا لا يمثّل علامة، حيث أنه لا يضيف معرفة جديدة، لكن الدخان الذي يظهر من وراء الهضاب يمثّل علامة، قد يكون حريقاً حقيقياً، أو إشارة متفقاً عليها بين أشخاص، أو عملية كيماوية هدفها الإيهام بوجود نار، أو طقساً تعبّدياً لإحدى الطوائف. هذا التعدّد، وضمنه إمكانية المغالطة، هو ما يجعل العلامة علامةً، ومن هنا يبدأ إيكو في التفكير في مسألة الحقيقة والكذب.
بالعودة إلى هذا التعريف الذي مرّت عليه عقود، يشير إيكو إلى أنه لم يتفطّن حين صاغه إلى ضرورة التفريق بين مستويين؛ العلامة باعتبارها وسيلة لقول الخطأ، والعلامة بوصفها وسيلة لقول ما لا ينطبق على الواقع، ومن هنا يقترح تفرقة أساسية بين المفاهيم في نصّه، فالكذب ليس سوى صيغة وحيدة بين صياغات عدة للتعبير عما لا ينطبق على الواقع.
لشرح هذا الفارق الدلالي، يَذكر إيكو عالم الفلك الإغريقي بطليموس، والذي كان يقول بأن الشمس تدور حول الأرض. لقد كان يقول ما لا ينطبق على الواقع، لكن لم يكن يكذب، فالكذب هو قول ما هو مخالف لما نعتقد أنه ينطبق على الواقع. هنا يقترح المفكر الإيطالي أن نتخيّل وضعية قرّر فيها بطليموس أن ينتمي إلى جماعة تؤمن بأن الأرض تدور حول الشمس، هنا سيقول الفلكي ما ينطبق على الواقع ولكنه في هذه الحالة سيقع في الكذب، وسيفتح ذلك الإشكالية الأصلية على أفق آخر هو الأخلاق.
يعرّف العلامة بكونها كل ما يمكننا أن نكذب من خلاله
يأتي إيكو بنموذج آخر، من التاريخ الأدبي هذه المرة، حين يذكر افتراء إياغو على ديدمونة بأنها خانت عطيل. القارئ أو المتفرّج مقتنع بأن إياغو كاذب، لكن هذا الأخير سيظل كاذباً حتى لو أن ديدمونة خانت عطيل بالفعل لأنه ينطلق في خطابه من تزييف للواقع كي يدفع بالأحداث في اتجاه بعينه.
في سياق إيراده لهذه الأمثلة، يشير إيكو إلى أنه انتبه بفعل توغّله في هذا المبحث عن الكذب والحقيقة أن روايته "مقبرة براغ" (1988)، يمكن اعتبارها تفكيراً في نفس موضوع المحاضرة التي اقترحت عليه، ومن هنا يظهر أكثر الجوانب طرافة في المحاضرة وهي أن إيكو قد جعل منها "تعرّفاً" جديداً لمدوّنته البحثية، ولعلّ ذلك هو ما دعاه لاستعمال مفردة "التعرّف" في عنوان المحاضرة.
لكن، كيف تتمّ عملية "التعرّف على الخطأ" عملياً؟ سؤال قد يكون السبب في اقتناء الكتاب باعتباره يقدّم أدوات فكرية لمجابهة ظواهر التزييف التي تخترق العالم، لكن إيكو لا يؤمن بوصفة، ولا بمنهجية علمية، بل أكثر من ذلك يشير إلى أن السلاح الحقيقي ضدّ كذب العالم هو "السخرية"، والتي هي مستوى آخر من مستويات قول ما لا ينطبق على الواقع، فالأدب مثلاً يسخر من الواقع فيختلق واقعاً جديداً لا يمكن أن نقول عنه إنه كاذب أو أنه حقيقي؛ في هذه المنطقة لا يقال الخطأ من أجل أن يُصدّق بل من أجل أن يوضع الواقع أمام نسبيّته، الواقع بما فيه من كذب وحقيقة.
هناك يعرّج صاحب "القارئ في الحكاية" على مسألة طريفة وهي تصديق شريحة واسعة من القراء لكثير من الروايات، ويتعاملون مع شخصياتها وكأنها من الواقع يحاسبونها على هذا الأساس. يرى الكاتب الإيطالي أن تصديق الكذب أو الأدب هو خاصية بشرية لا يمكن مجابهتها بشكل جذريّ، هناك رغبة بشرية عميقة للتصديق، لإيجاد بضعة عناصر يمكن الاتكاء عليها كعكازات للسير إلى الأمام، أو السير من أجل السير، ويكتب إيكو بشكل ساخر هنا: "أؤكّد لكم، من موقعي ككاتب روائيّ، أن أي رواية تتجاوز طبعتها العشرة آلاف نسخة، فهي تصل بالضرورة إلى جمهور لم يسمع يوماً عن الفارق بين المؤلف والراوي، وبالتالي فإن نجاحها سيضع كاتبها في مواجهة التعامل مع خياله باعتباره واقعاً".
بشكل عام، يقدّم كتاب إيكو ضرباً من السخرية الفكرية الضرورية لمواجهة سؤال الحقيقة والكذب، لسنا بالضرورة ضحايا مغالطات العالم، فالجميع يشترك في صناعتها، والبحث عن تطوير كفاءاتنا في "التعرّف على الخطأ" وكأننا نبني قلعة ستحمينا من الزيف والمغالطات هو أمر إلى الوهم أقرب. لا خيار إلا التعايش مع الكذب باعتباره مكوّناً من مكوّنات العالم، على أن نعرف كيف نوقف تسلّطه، تماماً مثلما نحتاج للتصدّي لتسلّط الحقيقة.
يقودنا إيكو إلى قناعة مفادها أن التعرّف على الخطأ مطمح جبّار (ما فوق بشري) يصعب إنجازه، ويضرب في هذا السياق مثال التأكّد من موت نابليون في يوم 5 مايو/ أيار 1821، ما يقوم به معظمنا هو التأكد من المعلومة في موسوعة، ويمكن أكثر من ذلك البحث في الأرشيفات على وثيقةٍ تؤكّد الوفاة، لكن ما أدرانا أن هذه الوثيقة لا تقود إلى مغالطة كأن يكون من سجّل تاريخ الرحيل قد أخطأ في رقم، أو أن له مصلحة ما كأن يعلن وفاة نابليون ويهرّبه إلى أميركا الجنوبية.
بالنسبة لـ إيكو، التعرّف على الخطأ وهم آخر من أوهام العقل البشري. نحن تائهون في عالم من المغالطات، ولا نملك إلا أن نطمئن أنفسنا بأننا نملك الأدوات لمجابهتها. وبذلك يرسم المفكّر الإيطالي ملامح جرح نرجسي كالذي عرفته البشرية مع كوبرنيكوس حين عرفت أن الكوكب الذي تقيم فيه عبارة عن حبّة غبار في فضاء شاسع بعد أن كانت تعتقد بكونها مركز الكون ومنتهاه. ضَرب الجرحُ أعماق البشرية لكن العالم لم ينته.