لا تزال الفلسفة، في الثقافة العربية، محكومة بأطر لا تغادرها، فهي ممارسة نخبوية عصية عن الوصول إلى الجمهور الواسع. لا تنبع هذه القطيعة من خصوصيات الفلسفة بقدر ما تنبع من قناعات سائدة هناك جهود متنوّعة تعمل على مراجعتها.
ضمن هذه الجهود يتنزّل كتاب "الفلسفة الموجّهة للأطفال واليافعين" (دار كلمة، سلسلة سقراط الصغير، 2021) للباحث التونسي محيي الدين الكلاعي الذي يقول في حديث إلى "العربي الجديد": "إن الفلسفة الموجّهة للأطفال واليافعين كانت بالنسبة إليّ اكتشافاً جميلاً في السنوات الأخيرة. وباعتبار أنني أدرّس فلسفة التربية والمقاربات البيداغوجية الحديثة لطلبة التربية والتعليم في "المعهد العالي للدراسات التطبيقية في الإنسانيات" (الكاف) فقد تمكنتُ من الاطلاع على عديد الكتابات في هذا المجال رغم قلتها. كما استأنستُ بتجربة الأستاذة هدى الكافي في تنشيط ورشات التفكير الفلسفي مع الأطفال لخوض هذه التجربة مع الطلبة ومع تلامذة المرحلة الأساسية والإعدادية. والأستاذة هدى الكافي في الحقيقة هي الرائدة في هذا المجال، لا في مستوى تنشيط هذه الورشات فحسب بل في تكوين مجموعة هامة من المربين على آداب هذه الفكرة".
يضيف الكلاعي: "لم تكن نيتي متجهة في البداية للتأليف في هذا المجال بقدر ما كانت متجهة نحو التكوين العلمي والبيداغوجي. فالكتابات التربوية والبيداغوجية والعلمية في هذا المجال تكاد تكون منعدمة بالمكتبات الجامعية والوطنية، ليس باللسان العربي فحسب بل حتى باللسان الفرنسي. ولم تترجم بعض أعمال الرائدين في هذا المجال إلى حد الآن من اللسان الإنكليزي. ولا يبدو أن هناك نوايا في البلدان العربية لتبني هذا المشروع والمراهنة عليه".
وحول كيفية تأليف عمله، يقول الكلاعي: "اخترتُ مجموعة هامة من النصوص من عديد القصص والروايات العربية والأجنبية ومن مصادر فلسفية وتربوية للرائدين في هذا المجال، وقمت بترجمتها إلى اللسان العربي، ومهدتُ لها بمقدمة مطولة تشرح أدبيات هذه الفكرة واستراتيجياتها ورهاناتها. وهو كتاب موجّه للمربّين للتعرف على أبجديات التفلسف مع الأطفال، ومحاولة ممارستها بالمدارس الابتدائية والإعدادية، وبالمعاهد الثانوية".
لكن هل أن القضايا التي نجدها في الفلسفة الموجهة للأطفال واليافعين هي ذات القضايا التي نعرفها في الفلسفة بمعناها الأوسع؟ يجيب المؤلف: "قضايا الفلسفة الموجهة للأطفال واليافعين هي أولاً قضايا الأطفال واليافعين، قبل أن تكون قضية الفلسفة، وهي قضية مجتمع. هي قضية الأطفال واليافعين لأن الطفل والمراهق بحاجة إلى فضاءات مدرسية وثقافية يعبر فيها عن الرأي، والإحساس، عن المخاوف والرغبات. فضاءات تفكير لا فضاءات تلقين، فضاءت حرة خارج منطق التقييم وهواجس النجاح والفشل. والطفل شأنه شأن المراهق بحاجة إلى من يستمع إليه ويعزز ثقته بنفسه، بحاجة إلى من يطور ملكاته، ملكة التفكير والكلام والخيال والإحساس، والذوق. وهذا لسوء الحظ لا توفره المواد التعليمية ولا مدارسنا التقليدية. وقضايا الأطفال واليافعين هي أيضاً قضاياً الحب والصدق والصداقة والأمل والحقيقة والعدل... ومن الأطفال والمراهقين أيضا من يعاني مشاكل نفسية واجتماعية (طلاق، يتم، اغتصاب، جريمة، إدمان...الخ) تهدّد توازنه النفسي والاجتماعي ومن شأن الفلسفة الموجهة للأطفال واليافعين، بل من أوكد مهامها، أن تخوض معهم تجارب نقاش مطولة في الإصلاحيات والعيادات والمدارس ومراكز الرعاية الخاصة بالطفولة. لأن الفلسفة الموجهة للأطفال واليافعين ليست مادة تعليمية ولا ينبغي أن تكون كذلك".
يشير الكلاعي: "قضيّة الفلسفة الموجهة للأطفال هي أيضاً قضية الفلسفة. فالفلسفة التي تدرّس في الجامعات، وتمارس في الصالونات، وفي مناسبات ثقافية وأكاديمية محدودة، وكذلك الفلسفة التي تحتويها المجلدات وتكدّس برفوف المكتبات، والفلسفة التي لا تشغلها سوى المدارس الكبرى، والأنساق التاريخية العظمى، والتيارات الإيديولوجية الأساسية، و"الفلسفة التي لا تتصالح مع الشعب"، ولا تتحول إلى ممارسة في الفضاء العمومي والمدرسي لا يمكن أن تكون حية ولا ناجعة، لا يمكن أن تبني العقل ولا يمكن أن تنمي الشخصية. وعلى هذا الأساس فإن الفلسفة الموجهة للأطفال واليافعين تريد أن تعيد الفلسفة لساحات المدينة على النحو الذي كان يمارسه سقراط وإن كان ذلك بطرائق بيداغوجية مختلفة، ولأهداف تربوية مختلفة أيضاً".
يضيف: "وقضية الفلسفة الموجهة للأطفال هي أيضاً قضية مجتمع. فبناء عقل الطفل وشخصيته يهدف إلى بناء المجتمع والشخصية الاجتماعية. وتربية الطفل على قيم البحث والنقد والعمل والصدق والحرية والعدالة تهدف إلى تأسيس مجتمع عقلاني ومفتوح وديمقراطي. مجتمع متحرر من الظلامية والتعصب الإيديولوجي والجبن واللامبالاة والتعويل على الغير".
وعن شروط تأسيس هذه التجربة فهي برأي الباحث التونسي "كثيرة، لا سيما في البلاد العربية. فالتأسيس يبدأ بالمدرسة والجامعة. يحتاج إلى قوانين وإجراءات تبيح لأهل الاختصاص تنشيط ورشات تفكير مع الأطفال واليافعين بلا تعطيل، وتسويف، ورقابة، وتوجيه، وتخويف. ويحتاج تأسيس هذه التجربة إلى مدرسة جديدة، وديمقراطية، ومجددة، مدرسة غير محكومة بسلطة الحزب والمذهب والتقليد، وحتى بسلطة البرنامج وعقلية النجاح بالمفهوم الاجتماعي الضيق. ونحن نحتاج أكثر من ذلك إلى تبني الدولة لهذا المشروع، دولة تدعم الكاتب والكتاب، تهتم بالثقافة، بالمعنى الأصيل للثقافة، لا الثقافة الاستهلاكية والآنية بل الثقافة المؤسسة للأوطان، ثقافة الإبداع والتنوع في المسرح والرسم والشعر والأدب والسنما. نحن نحتاج إلى دولة تراهن على المدرسة، وعلى المستقبل، لا دولة حبيسة اليومي والأحداث الطارئة والفجئية. فالفلسفة الموجهة للأطفال فلسفة موجهة للإنسان. ونحن نحتاج بالطبع إلى العمل الجماعي، إلى العمل المشترك، وهو تقليد شبه مغيب بالدول العربية، إذ لا نزال محكومين بسلطة الشخص والاسم، والمبادرات الفردية لا يمكن أن تنجح في مثل هذه التجارب. نحن نحتاج إلى مؤسسات بحثية، ودور نشر تحتضن الكتّاب والمبدعين، ونحتاج إلى سياسة تربوية وإلى استراتيجيا ترسم الدولة خطوطها الكبرى، تنظم المؤتمرات، وتكوّن الكفاءات، وتشجع المبادرات. ونحن نحتاج بالطبع إلى التضحية والمثابرة، لأن مشروع بناء الفكر وبناء الإنسان يحتاج إلى عدة عقود".
يؤكّد المؤلف أن الكتابة عن وضمن الفلسفة الموجّهة للأطفال "ليست تجربة هيّنة، فهي ليست موضة للاستهلاك الثقافي والإعلامي، وليست شعاراً سياسياً نستحسنه في لحظة انتخابية عابرة. الفلسفة الموجهة للأطفال واليافعين مشروع دولة، بل مشروع أمة، والعمل في هذا الاتجاه لم يبدأ في الحقيقة بعدُ. نحتاج إلى جهد جماعي طويل، وصدق ومثابرة. لذلك صدّرت هذا العمل بقول للأديب التونسي محمود المسعدي: وإنّ هذا الكتاب لكالصوت أو كالصيحة في واد به حاجة إلى ما يردّد صداه ويُسري فيه خلجة الروح".