تأتي بعض القصائد في مجموعة "بتَحنانٍ يخطّ بَرديّته"، للشاعرة المصريّة ديمة محمود (الهيئة العامة لقصور الثقافة، 2021)، بفنيّة عاليّة، كما هو الحال في قصيدة "لا نشبه هذا العالم"، التي أعدتُ قراءتها عدّة مرّات، من باب المتعة الشخصيّة. قصيدة بإيقاع مُتقطّع، مُتدرّج، من خلال عبارات متفاوتة الطول، وجُمل مُعترضة، ومفردات بين قوسين، وجمل استفهاميّة، كأنّ تقاطعها وتناوبها دفقاتٌ إيقاعيّة متداخلة في موسيقى جاز. وتطغى عليها، كما هو الحال في مجمل قصائد المجموعة، نغمةٌ تشي بمزيج من السوداوية والسخرية، كنتاج لعالَم تنخرط فيه الشاعرة ولا يتوانى عن إثارة خيبتها، بينما لا تتوقف عن مناكفته.
تصبّ الشاعرة في القصيدة كلّ هواجسها المعاصرة، والآنيّة، والتي عليها مواجهتها، واجتيازها، والتحايل عليها أو السخرية منها. قضايا اجتماعيّة ضاغطة عليها شخصيّاً، وإن اكتفت بالمرور عليها سريعاً، لتعود إليها في قصائد أخرى. أحياناً تكتفي بذكرها، فلا مجال للإطالة ربما، فهناك قضايا أخرى ساخنة وملحّة تلتفّ حول معصمها. إنّ القصيدة "عالَمٌ" - وهي المفردّة الأكثر تردّداً في مجموعتها، حتى أنّها تصل إلى ثلاث مرّات في نفس القصيدة وتتكرّر في العناوين - مفتوحٌ على كلّ هذه الحوادث والأحداث والملابسات التي تتداخل بيوميّات الشاعرة وتشكّل أجندتها، وتُوّلد هواجسها، وتتسرّب إلى أحلامها: قضايا البيئة، والمساواة، وثورات الربيع العربيّ، والمظاهرات، والحبّ الشخصيّ المرتبك، والرؤوس النوويّة، والإضرابات العماليّة والنقابيّة، وكلّ ما سيشغل العالم بالعشرين سنة القادمة:
"ماذا سيحدثُ - يعني - لو استبدلنا نصفينَا في محاولةٍ للتّصدّي؟
وقلنا: إنَّ الزّبدةَ نصفُ المجتمع
وبفرشاةٍ لدهنِ الجدرانِ لوّنّا نصفينَا العلويّين بالأخضر
كدعمٍ لمناصري البيئةِ
واستبدلتُ ساقيَ بعمود إنارةٍ؛ لأجرّبَ معاناةَ المخذولين
بينما تصبحُ ساقكَ مطرقةً في يد صبيّ خرّاط
ماذا سيحدثُ لو قلنا: "لا شيء خارج النصّ"؟
لا شيء داخله كذلك!
البيضةُ لمّا تزل بيضة
والشعراءُ سماسرةٌ حمقى بين الواقع والفنِّ
هل أعيرك حمّالة ثدييَ الآن من بابِ المساواةِ؟".
تأتي بعض العبارات بسخرية تدفع للابتسام؛ الشاعرة تدافع عن المساواة، ولا يمنعها ذلك من التعبير عن الأمر بصورة طريفة، مضحكة، ربّما كاقتراح لحلّ ساخر في ظلّ تأزّم القيَم وصعوبة تحقيقها على أرض الواقع. والشعراء سماسرة، ورغم أنّ السمسار في اللغة وسيطٌ مستقلّ وحرّ مقارنةً بالوكيل، إلّا أنّ مقارنة الشعراء بالسماسرة سخرية منهم واستخفاف بمهمّتهم التي لا تتعدّى التردّد والتراوح بين طرفين، كأنهم في ورطة، هي ورطة الشاعرة أيضاً. ويظهر انشغالها بهذا العالم الضاج، قربها وحولها، في قصائد أخرى عديدة، مثل قصيدة "على القضبان".
قصائد تُظهر قدرةً على التأمّل الحادّ والسخريّة الموزونة
ما يميّز عمل الشاعرة أنّها تطوّع قصيدتها لقضاياها اليوميّة، وانشغالاتها القريبة والبعيدة، ولا تتوانى عن ذكر عبارات لها مُسمّيات إداريّة، كالنقابات العماليّة، والبرلمان، كما في قولها: "لن تتوقف عنصريّة تَحُدُّ 'كوتة' المرأة في البرلمان أو بناء الكنائس". ويبدو هنا أنّه لا يمكن استبدال كلمة "كوتة" بكلمة عربيّة فصيحة، لأنّ لها دلالة خاصّة تحيل إلى النقاشات والأجواء والسجالات الدائمة في المجتمع، وهي شائعة ومستخدمة كثيراً في اللغة اليوميّة إلى حدّ الألفة التي لا يمكن أن تتوفّر ربما لكلمة عربيّة سليمة لها نفس المعنى وموجودة في قواميس اللغة!
وتلجأ أيضاً إلى مفردات من اللغة المحكيّة شائعة كثيراً، مثل "يعني" التي تُستخدم عادة لتوضيح الحديث في اللغة المحكيّة، أو إعادة القول بطريقة أخرى، أو تَمنّي شيء ما كما في قولها: "ماذا سيحدثُ - يعني - لو استبدلنا نصفينَا في محاولةٍ للتّصدّي؟"، بحيث تصبح قصيدتها مسرحاً تظهر عليه كلّ هذه المسائل والقضايا، وتعالجها بلغة نثريّة بعيداً عن الغنائيّة، أو الجماليّة الفائضة، أو التعامل الوجداني مع الواقع.
وتَصل بقصيدتها إلى مَحاكم الدولة، كما في قولها: "السديم وحده المخوّل بصهر قوائم الادّعاء العام ومرافعات المحاكم". ولا تأنف من توظيف صور تكاد تكون مُقزّزة: "نلعقُ قيحَنا قبل أن يسابقنا الكولونياليّون، حتى إليه"، فهي لا تبحث عن لغة تجمّل بها الواقع، بقدر انشغالها بالتعبير عنه ورسمه على حقيقته في أقبح صوره.
تجد الشاعرة في قصيدة النثر متّسعاً لها، بما تمنحه لها من حرّية في اختيار مفردات تقريريّة وتكنوقراطيّة، وعبارات طويلة تخرج عن أيّ إيقاع ضيّق، تنهض بها في انعطافة أو مفارقة لغويّة نكاد لا نلاحظها من شدّة اقترابها من الحقيقة، كقولها: "لماذا يربط الإقطاعيون أوهامنا مع كتلهم الإسمنتيّة وقراهم السياحيّة"؛ كما يبدو ذلك في ربط هشاشة "الأوهام" بصلابة "الإسمنت". وتتوقّف في عبارات أخرى مُمسكةً بحقيقة من ذيلها، كأنّها فرخ حمام كاد أنّ يفرّ من أمامها: "في ذيل الفكرة تقطن الحقيقة".
وهي من ناحية أخرى لا تتوانى عن الاعتراف بالضعف، كما هو الحال في قصيدة "كَنُتوئَيْن في ظهر هذا العالم"، إذ تُقِرّ بأنّه "لم تُعِدّنا أمهاتُنا للحرب باكراً ولا لتحضير الأرغفة وترميم البلّور". أمّا قصيدة "سقط المتاع"، فتُشكّل مساءلة جريئة تصل حدّ "الحساب الشخصيّ" أمام هذا الواقع المتشعّب بصراعاته، ومراجعة للخيارات التي اتّخذتها الشاعرة، برفقة المحبوب الذي يظهر كثيمة متكرّرة تمنح القصائد إطاراً حميماً في خضمّ معالجتها للقضايا العامة. وفي القصيدة مساءلة أيضاً للمواقف التي تبنّتها، والرؤية التي حملتها، وطرق المعالجة التي اختارتها:
"لماذا هبطنا والشلّال يصعد
واستكنّا والحمام يرفّ
وبكينا والحساسين تزقزق
لماذا سكنّا المشيئة برغم
البروليتاريا
وآثرنا المقاهي والبعوض
وروث البهائم
خلعنا كوفيّاتنا بلا قناعة
وطاردتنا صيروراتُنا".
إلى أن تقول دون مواربة وبمزيج من البوح والاعتراف:
"إنّ الزمان، رديف المكان،
أكذوبتنا الكبرى
وإننا نغمد وعينا مراراً
- مختارين - دون أسمالٍ ولا أوراق توت".
وفي حالات أخرى تختار المبالاة العنيدة، ويظهر هذا في مشهد تُحوّله من تراجيديّة التلاشي إلى لحظة اتّحاد رومانسيّ مع حبيبها، في قدَر مشترك يجمع نهايتهما، كخيار ممكن أمام الواقع الذي أصبح تَحدّياً وليس مكاناً مُتاحاً للعيش التلقائيّ، كما في قصيدة "رفّة":
"ثمّ نلفّ الأسلاك الشائكة علينا ونتظاهر
ونتلاشى معاً
دونما أقمار ولا جنائز ولا أكاليل".
أحد أهم إنجازات القصيدة الحديثة هو حرّية التركيب والتشكيل البصريّ للصورة الشعرّيّة، كما يقول عزّ الدين اسماعيل في كتابه "الشعر العربيّ المعاصر: قضاياه وظواهره الفنيّة والمعنويّة". حيث تصبح حرّية البحث عن تشبيهات وتصورّات بصريّة ومعنويّة مسألة أساسيّة في عملية الخلق الفنّي، وهذا ما يمنح الصوت الشعريّ خصوصيّته وفرادته، ونجد ذلك في عدد وافر من قصائد ديمة محمود. لكنّ بعض العبارات، في مجموعتها، تكاد تخرج عن الغموض المُوحِيْ إلى شكلٍ من التعقيد قد يصل إلى الإبهام. ليس على مستوى التركيب النحويّ للجملة، بل بشكل خاص في التشكيل البصريّ للصور الشعريّة، كما في قصيدة "بيانو":
الراسخون في البحر يمشّطون الليل على مضضٍ
تذروهم عجائن الجنّيات
تتسحّب العتمة في خفاء يدشّن المجاز
ناصية البيانو
كانت الأصابع أثلاً خديجاً أفرغت الغيمة
قطنها فيه فاستوى
ثم حاضت الدلجة، لتغدق حبراً".
على مستوى المعنى الكلّي للفقرة، يبدو من الصعب إيجاد خيوط ولو خفيّة بين"ناصية البيانو" بالعبارة التي تسبقها ("تنسحب العتمة في خفاء يدشّن المجاز"). بالإضافة إلى وجود بعض المفردات غير الشائعة التي تساهم في غموض الفقرة مثل "أثلاً" و"الدّلجة"، وأيضاً غياب الإشارات للتقرّب من النصّ. كلّ هذا قد يساهم في تعقيد مهمّة القارئ في تلقيّ القصيدة أو التفاعل معها. فهذا التراكم من الانزياحات والمواربات وأشكال الغموض بصريّاً ومعنويّاً، في فقرة واحدة، قد يقود القارئ في النهاية إلى جملة شعريّة مُبهمة، دون التمكّن من القبض على إشارة موحية بإحساس ما أو ملامح فكرة، ما قد يجعل قراءة بعض الفقرات صعبةً. لكنّ هذا بالطبع خيار أيّ شاعر في النهاية، في أسلوب كتابة قصيدته، رغم المخاطرة بتقديم جمل مقفَلة أحياناً إلى القارئ.
تخرج أحياناً من الغموض المُوحي إلى التعقيد والإبهام
عند الانتهاء من قراءة المجموعة، نخرجُ بانطباعٍ قويّ بأنّ قصائد الشاعرة مشغولة باللحظة الآنيّة، وأن عودتها إلى الماضي هي فقط لأنّه امتداد عكسيّ للحاضر، وذكْرها للمستقبل هو فقط لأنه استمرار للحظة التي "تعيشها" و"تكابدها" و"تشتبك" معها من أكثر من جانب وعلى أكثر من مستوى. وهذا ما يضمن لقصيدتها، في الغالب، صوراً حيّة، من الطرافة والجدّة بما يجعلها لافتة ومثيرة للقارئ، مثل: "أقسّم أحلامي فقط في قُدُوُر"، و"هذا العالم به متّسعٌ لشُبهاتنا"، أو "ليس العالم بحاجة إلى مخلوقات جديدة، مخالبي وظهرك يكفيان". وهذا ما يمنح القراءة متعةً وإحساساً عامّاً، ولو كان مؤقّتاً، بفضْح أسرار هذا الواقع، والاقتراب من ميكانيكيّته الخفيّة، فهو غير عصيّ على لغة شعريّة مُتحرّرة من الجمالية التقليديّة، وقادرة على التأمّل الحادّ والسخريّة الموزونة، لتُحوّل ــ بمهارة ــ تناقضاته ومفارقاته إلى طرائف وصور شعريّة خالصة.
* شاعر وناقد فلسطيني مقيم في باريس