مثلما تشير إحدى المقولات إلى أن الحرب مسألة خطيرة لا يمكن تركها بأيدي العسكريين وحدهم، فإن الاقتصاد هو الآخر من الخطورة، بحيث لا يمكن تركه بأيدي المختصّين في علم الاقتصاد وحدهم. تلك هي الفكرة التي ينطلق منها، وإليها يعود، المفكّر الاقتصادي الفرنسي توما بيكيتي (1971) في كتابه الأخير "تاريخ موجز للمساواة"، الصادر منذ أيام عن "منشورات سوي"، مؤكّداً أن تعميم التفكير في القضايا الاقتصادية بين شرائح أوسع داخل المجتمع هو الضمانة للتقدّم نحو المساواة.
هكذا نفهم من البداية أن جهد كتابة تاريخ للمساواة ليس مسألة سدّ فجوة في المكتبة التاريخية أو الاقتصادية، إنها مسألة تحريك همم في سياق بات يلحّ على تغيير المعادلات وإعادة بناء المصير المشترك. لم يغب عن بيكيتي التذكير بالأزمة الصحية التي ضربت العالم منذ نهاية 2019، وهي من منظور التاريخ الذي يتصدّى لكتابته فرصة لتحقيق خطوات جديدة نحو المساواة، مثلها مثل أزمات كثيرة قبلها، اقتصادية وسياسية وقيمية وإيكولوجية. مثلاً، يشرح بتفصيل العلاقة بين أوبئة القرون الوسطى ونهاية العبودية في أوروبا.
يشير بيكيتي إلى أننا قد نعتقد بأن عالم اليوم بعيد عن تحقيق المساواة بين سكّانه، وهنا علينا أن نضع القضية في سلّم زمني أوسع، إذ يكفي، بحسبه، أن نقارن عصرنا بالقرن الثامن عشر كي نشعر بأن الكثير قد تحقّق في مسيرة البشر نحو المساواة، ولكن سنعرف بالتأكيد أن الكثير لم يتحقّق أيضاً. فالعودة إلى ما قبل "الثورة الفرنسية"، مثلاً، تتيح أن نرى بوضوح تقلّص احتكار السلطة والمِلكية، كما أن العودة إلى تاريخ أقرب؛ ما قبل الحربين العالميّتين، يثبت أن خطوات كبيرة قد قُطعت على مستوى التعليم والصحة. فقط ينبّه بيكيتي إلى أن هذه المنجزات قابلة للارتداد، وهو ما يلاحظه منذ ثمانينيات القرن الماضي، مع الترويج للنموذج النيوليبرالي كخيار لا بديل عنه بعد نهاية "الثلاثين عاماً المجيدة" (من 1950 إلى 1980).
يؤكّد المؤلف على ضرورة مجابهة وباء العصر: النيولويبرالية
من خلال هذه الإشارات، يكشف بيكيتي أن قناعاتنا ينبغي ألا تستند إلى الملاحظة وحدها، في كل مرة ينبغي فحص العدسات التي نرى بها الأمور، وفي هذا السياق يقدّم قراءة نقدية عميقة حول الوعي بالمساواة في علاقتها بالمؤشرات والأرقام والإحصائيات. يعتبر المفكر الاقتصادي الفرنسي أن أصحاب القرار من السياسيين، مثلهم مثل علماء الاقتصاد، لا يأخذون من الأرقام إلا ما يحتاجونه في مهمة محدّدة، وبالتالي فهم حين يريدون التسويق لنظرة متفائلة للواقع سيلتفتون إلى الأرقام التي تؤدّي إلى نتائج إيجابية فحسب، أما إذا كان الهدف في الاتجاه المعاكس فما عليهم سوى النظر إلى مؤشرات أُخرى. في هذا السياق يفتح المفكّر الاقتصادي الفرنسي قوساً ليشير إلى أن تحديد المؤشرات الاقتصادية ينبغي أن يكون نتيجة قرار شعبيّ عام، تماماً مثل اختيار رئيس الدولة.
بذلك، يعلن بيكيتي، المعروف باعتماده المكثّف على الأرقام والرسوم البيانية، أن هذه الأخيرة ليست الحقيقة في حدّ ذاتها، وإنما هي إشارات تحتاج إلى إحاطة معرفية كي يمكن استخراج دلالة، ومن أشكال هذه الإحاطة عقد المقارنات التاريخية والاستئناس بنتائج حصّلتها حقول معرفية تبدو بعيدة عن الاقتصاد، مثل علوم الاتصال والأنثروبولوجيا والبيولوجيا.
يكتب بيكيتي في هذا المعنى فيقول: "إذا كان من الممكن أن نكتب اليوم تاريخاً للمساواة، فذلك بفضل الأبحاث العديدة التي يُتيح تجميعها تجديد معرفتنا بالتاريخ الاقتصادي والاجتماعي". كما يذكر بيكيتي بشكل خاص كتاب "الافتراق الكبير" الصادر عام 2000، مؤكّداً أنه لولا الخطوات التي قطعها مؤلفه، كينيث بوميرانز، لبقيت الكثير من العناصر التي يستند إليها "تاريخ موجز للمساواة" غير مرئية.
بشكل عام، يرى بيكيتي أن هناك ثلاثة عوامل حجبت فهم تاريخ المساواة، أوّلها الانغلاق المعرفي؛ حيث إن التخصّصات تقطّع الظاهرة فلا تخرج منها إلا بمقولة صغيرة لا تمكّن من فهم قضايا أشمل من بينها المساواة. أمّا العامل الثاني فهو "القومية الثقافية"، وفيه ينحصر الباحثون على القضايا القريبة منهم، فتظل أجوبتهم قاصرة عن فهم ظواهر تغذّيها مؤثرات دولية. أمّا العامل الأخير الذي طالما أزاح دراسة المساواة من أمام أنظار الباحثين، فهو ما يسمّيه بيكيتي بـ"التخدير التاريخي" ويَقصد به ذلك التعوّد على تمثّل التاريخ باعتباره مجموعة من الأحداث المترابطة والتي تتحوّل إلى سرديات تخفي الجوهري والعميق في التاريخ.
يشير بيكيتي، في معرض حديثٍ عن أسباب تأليفه لهذا الكتاب، إلى أنه قد تلقّى الكثير من الملاحظات من قرّائه بأنهم أحبّوا أطروحات عمليه المرجعيين؛ "رأس المال في القرن الحادي والعشرين" (2013) و"رأس المال والأيديولوجيا" (2019)، لكنهم لم يتمكّنوا من قراءتهما بسبب ضخامة العملين (ألف صفحة لكل كتاب). يقول بيكيتي: "هكذا فكّرت في إنجاز كتاب تأليفيّ يمر من النقاط الأساسية للعملين السابقين"، وقد أشار إلى أن كتابيه السابقين اعتمدا على برامج بحث دولية (جمع بيانات، مقارنات على مستوى عالمي...) في حين أن هذا العمل هو أقرب إلى الحجم البشري.
تحديد المؤشرات الاقتصادية ينبغي أن يكون نتيجة قرار شعبيّ
وكما في مجمل منجزاته العلمية، فإن العمود الفقري لـ"تاريخ موجز للمساواة" هو النظر في كيفية توزيع الثروات بين مختلف الأطراف، من زوايا طبقية وجندرية وعرقية، ومن هذه الزاوية ستظهر أشكال اللامساواة التي ينتهي الوعي بها إلى تحريك تاريخ المساواة إلى الأمام، وهو عمل بشري يرى بيكيتي أنه ينبغي أن يتعلّمه كلّ جيل، مشيراً إلى أن كتابه ليس إلا محاولة لوضع المجتمعات الحديثة فوق "أرضية تاريخية صلبة"، حيث ينبّه إلى وجود معتقد بأن النزعة المطلبية نحو المساواة بدأت قريباً.
حرص بيكيتي على ألّا يَغرق كتابُه في "المركزية الغربية"، وهو في مقام الحديث عن المساواة. لقد بيّن أنه لا يكفي قياس المساواة بين مواطنين فرنسيين أو ألمانيين، بل ينبغي أن نضع أفراداً متفرّقين من قارات العالم تحت ضوء المقارنات، وسنقف عندها على الفوارق المادية والمعرفية بين سكّان الكوكب الواحد.
من خلال نظره في التاريخ، يحمل بيكيتي قناعة مفادها أن الأزمات تهيّئ الظروف لمنعطفات تاريخية، ولعلّ أحد أسباب تأليف "تاريخ موجز للمساواة" ينبع من هذه القناعة. توجد اليوم أزمة عميقة، بدأت صحية وتبيّن أنها مترابطة مع أزمات مفتوحة؛ بيئية وسياسية واجتماعية، إذن، فإنه من المتاح أن نتقدّم خطوة جديدة نحو المساواة، وهو يرى أن العلوم الاجتماعية اليوم يمكنها أن تلعب دوراً أساسياً، لم يكن في مقدورها أن تلعبه في أزمات عالمية سابقة مثل انهيار 1929 أو نهاية الحرب العالمية الثانية، من دون أن يعني ذلك تضخيم دور هذه المعارف فتتحوّل إلى "دواء وهمي" لأمراض حقيقية.
هناك واجب يلقيه بيكيتي على عاتق الباحثين، وهو توفير تغطية علمية لجهود بناء مؤسسات ضامنة للمساواة، والتدريب عليها من خلال خطاب علمي يقظ أمام جميع التسريبات العنصرية والطبقية، إضافة إلى العمل على توفير جهاز نظري لقياس المساواة. ويذكّر بيكيتي، هنا، بأن قوانين فرنسا أو إيطاليا تمنع كل تفرقة على أساس الأصول العرقية عند اختيار الأنسب لموقع مهني، لكن الواقع يشير إلى غير ذلك، حيث إن ثلاثة أرباع المترشّحين من أصول أجنبية يجدون أنفسهم خارج أفق المنافسة، منذ أن يعرف المشغّلون أصولهم من خلال اللون أو الاسم.
بالنسبة إلى بيكيتي، المسألة واضحة: لا بدّ من مجابهة "وباء العصر" أولاً؛ النيولويبرالية. فقط، بعد تحرير المجتمعات من المنطق غير البشري للسوق يمكن بناء مجتمعات على أسس القيم البشرية. من أجل ذلك لا بدّ من استئناف مسيرة البحث عن المساواة، وبحسب بيكيتي فإن الرياح مواتية.