معرضٌ فردي لغيلان الصفدي، الفنان السوري، في غاليري "آرت أون 56" ببيروت. ليست المرة الأولى التي نصادف فيها فناناً سورياً شاباً في العاصمة اللبنانية. الغليان السوري جعل فنانين قدامى وجدداً يلجأون إلى بيروت، أقرب النواحي إليهم.
ليست البادرة الأولى من هذا النوع. من الواضح أن الأيام منذ القرن الماضي حفلت بمبادرات مثلها. بوسعنا القول، استناداً إلى وقائع، إن ثمة ما يشبه التمازج جعل السوريين شركاء عضويين في شتّى التظاهرات الثقافية التي انطلقت من بيروت، بل إنهم كانوا أحياناً روّاداً في هذه التظاهرات، وبثقل وازن. هذا ما نلقاه في الأدب وفي الشعر بخاصّة، أكثر ممّا نلقاه في التصوير. اليوم نجده أيضاً وبثقل في الفن التشكيلي، وأحد أمثلته معرضُ غيلان الصفدي "حياة الآخرين" (مستمرّ حتى نهاية تشرين الأول/ أكتوبر الجاري). لكنّ هذا المعرض الذي يذكّر ببعض أفضل تجارب في الفن السوري، يبدو أيضاً، وبالدرجة نفسها، متقاطعاً مع تجارب مماثلة في الفن اللبناني.
معرض غيلان الصفدي في بيروت، يبدو أنه، في قاعات الغاليري العديدة، تناسلَ من لوحة واحدة، بل يبدو أنه، فصلاً وراء فصل، يروي القصّة نفسها. إننا في شتى اللوحات نصادف مسطّحات ملأى في الغالب، بحشدٍ يُشرف أحياناً على فراغ أو يتظلّل تحت سقف من فراغ.
بلَعِبها وفوضاها، تنقلب جزئيات اللوحة على أصلها الزخرفي
لكنّ اللوحة هي هذا الأعمّ المليء المحتشد بجذوع ورؤوس متراصفة بأحجام متقاربة، بحيث تبدو كأنّها في مجموعها تخريم. فهي متوازية متلاصقة شبه متزاحمة، وهي بذلك تغطّي وتملأ مسطّحاً متكاملاً، تتتابع فيه وتتداخل بحيث تظهر كأنّها فسيفساء اللوحة أو أنّ اللوحة من زخرفتها. نحن هكذا أمام إلماحٍ بالزخرفة، لا يمنع، مع ذلك، من أن الجذوع والرؤوس فوقها مشخّصة، وأن ما يشبه الشكل الزخرفي هو استعارة من وراء اللوحة، ومن مثال سابق عليها.
مع ذلك، فإن الاستيحاء الزخرفي يبقى ماثلاً، بل ويبقى مطلّاً من بعيد على اللوحة. ليس الشكل الزخرفي وحده، فإن التوازي النسبيّ للرؤوس والجذوع يجعل من كلّ منها عيناً في اللوحة التي تتشكّل هكذا مما يبدو عيوناً. لكنّ الرجوع إلى تاريخ الفن يجعلنا أمام ذلك نفكّر في التنقيطية، فاللوحة المشكّلة من بؤر متوازية تعيدنا الى اللوحة التنقيطية. بيد أننا هكذا لا نزال وراء اللوحة، لا نزال نبحث عن استيحاء أصلي لها. إننا، بالزخرفة والتنقيطية، لا نزال في النظرة الأولى للّوحة، أو في الحقيقة لا نزال في نظر كلّيانيّ لها. إننا أمام غيشتالت اللوحة، ولا نزال في مجموعها وفي شكلها النهائي.
لكننا، في نظرة ثانية، نظرة تفصيلية للوحة، نصل إلى أنها، على استيحائها الزخرفي، ليست زخرفاً. إنها بالتأكيد رُسِمت هكذا لتكون إيقاعاً، ولتمتدّ كإيقاعٍ على المسطّح كلّه. لكنّ الأمر ليس كلّه على هذا النحو. اللوحة الصفدية تكاد في التفاوت بين مجموعها وجزئياتها، تكاد تكون مصداقاً لهذا التمييز بين الظاهر والباطن. الظاهر هو هذا الإيقاع الزخرفي التنقيطي، وهو بالتأكيد نموذج اللوحة وأسلوبها. لكنّ الأمر لا يبقى هو نفسه حين ننتقل إلى الجزئيات، وحين نتأمّل الرؤوس ـ الجذوع واحداً واحداً. هنا نرى أنّ لكل رأس ــ جذع موضعَه وأداءه وحقيقته وزمانه وظرفه.
إنّنا هكذا نرى رؤوساً ــ جذوعاً بل وجوهاً ـ جذوعاً آتية من أنماط ومِهَنٍ وأوضاع شتّى. هناك لكلٍّ وجهُه وعمره وجنسه وطبيعته. نحن هنا حيال ملوك وخدم ومهرجين وممثّلين وبدو وأصحاب عمائم وحزانى وضاحكين وسافرات ومحجّبات، وجمهور متعدّد الهيئات والفئات والأنماط، وكلّ منها آتٍ من أزمنة وثقافات وجماعات وأديان شتّى. أي إنّنا هكذا أمام قصّة أخرى، أمام ما يشبه المتحف.
لكن إذا أردنا تسمية أكثر ظرافة، قلنا إننا أمام سيرك. نقول هذا لأن في اللوحة وفي حشدها ما يشبه التهريج. نحن هكذا أمام لَعِبٍ، أمام عرض، أمام حشد مسحور. لذا، لا نُفاجأ حين نرى فوق الحشد وفوق الحشد وفوق الشكل التنقيطي، أشكالاً حرّة في عرض اللوحة عائمة في فضائها سابحة ممتدّة، امرأة عارية أو قبّعة متجوّلة وحتّى جلوساً ضد أسلوب اللوحة الظاهر لأول وهلة وضد مبدئها.
والحال أن تفصيل اللوحة ينقلب على مجموعها، وجزئياتها تنقلب أحياناً على كلّيتها. هذه الخيانات، وليست قليلة، لا تجعلنا فقط نفكّر في شاغال، وفي السيرك المضمر في لوحاته والتهريج الروائي، بل تقودنا إلى أن نجد في جزئيات اللوحة لعباً وفرفطة وفوضى، تنقلب على الأصل الزخرفي للوحة وتحيلها، ضدّ مبدئها، إلى ارتجال وتهريج ولعب. لكن من وراء ذلك لا تُطلّ اللوحة التنقيطية فحسب، لكن أيضاً المنمنمة الإسلامية. هكذا يتواصل الظاهر والباطن في اللوحة التي تمزج وتُزاوج بين مصادر عدّة قد تكون أيضاً بين شرق وغرب.
* شاعر وروائي من لبنان