شكّلت الأغنية تعبيراً أساسياً لدى الجماهير السورية لحظة نزولها إلى الشارع للاحتجاج ربيع عام 2011، وظلّت كذلك مع تأسيس العديد من الفرق الموسيقية في المنافي التي احتضنت العديد من الفنانين، وبدأت تقديم أشكال موسيقية جديدة لم تكن ضمن اهتمام الأجهزة التي تدير الثقافة طوال حكم البعث، وحملت مضامين أغنياتهم أحلام التغيير.
في مسار موازٍ، استعادت هذه الفرق التراث السوري المتعدّد في مناخاته الإيقاعية واللحنية في سياق التمسّك بالهوية والجذور ردّاً على النفي والإقصاء، وبرزت مشاريع عديدة كان آخرها إطلاق موقع إلكتروني باسم "خارطة سوريا الموسيقية" الجمعة الفائت، على الرابط التالي: https://www.syriamusicmap.org/ar/home
المشروع بدأ عام 2018 بالبحث وتجميع المواد الموسيقية من داخل سورية، ثم تسجيل العديد من المقطوعات الموسيقية مع خرّيجي مدرسة "العمل للأمل للموسيقى" في بيروت، ليصل مجموعها إلى مائة أغنية تمثّل جميع المناطق السورية، وتعكس عمقها الحضاري، حيث يشير تقديم الموقع إلى أنه من الصعب الحديث عن الموسيقى في سورية المعروفة اليوم، دون التطرق إلى المشهد الموسيقي في ما كان يعرف بـ "سوريا الكبرى"، بل في المشرق العربي كله بتراكمه الآشوري والفارسي والإسلامي، وامتداده المغاربي والأندلسي..
يضمّ المشروع موشحات وغناء الريف والتراث السرياني والإسلامي
بحسب هذه الرؤية، تبرز التقاطعات مع دول الجوار مثل العراق وتركيا، وكذلك العلاقة الوثيقة مع المشهد الموسيقي في مصر، كما لم يغفل المشروع "تأثير الأشكال المتعددة للموسيقى الدينية المسيحية والإسلامية الذي تعدى الممارسات الدينية وظهر في الموسيقى الدنيوية".
ضمن هذه الخريطة، انقسم الموقع إلى قوالب غنائية رئيسية أهمها الموشحات التي تعدّ حلب إحدى أبرز الحواضر التي احتضنتها، ويمكن الاستماع إلى نماذج عدّة منها مثل موشّحي "ما احتيالي" من ألحان أبو خليل القباني، و"أعد لنا" من ألحان أم محمد التلاوية.
يضيء الموقع أغاني الريف "الغناء الشعبي"، الذي يعبر في أغلبه عن مواضيع الزراعة والحصاد والمطر والموجود بشكل أساسي في الجزيرة السورية والبادية، ومن أبرز أنواعه العتابا الشروقية والعتابا السويحلية، النايل، والقصيد البدوي، والموليا، واللالا، والهجيني، إلى جانب الأغنية الماردللية التي يمتزج فيها تراث العرب والأكراد والسريان والأرمن والتركمان والإيزيديين مثل أغنية "ضلال" التي يحفظها الموقع، وكذلك "شكرية" من التراث الكردي، "نخ الجمل" وهي من قالب الحداء الشعبي، وغيرها.
لا يغيب الترتيل السرياني الذي يرتبط بالسريان الذين يعيشون في الجزيرة وفي دمشق وحلب وحمص حيث يتضمّن الموقع تسجيلات لتراتيل مثل "شوبحو" و"عمانو موريو"، وأغاني غير دينية باللغة السريانية ومنها أغنية "أوه حبيبو" للمطرب حبيب موسى.
كما يوثّق المشروع أذان الجامع الأموي الجماعي، وهو أكثر ما يميّز التراث الموسيقي الإسلامي في سورية، إذ يجتمع أكثر من عشرة مؤذنين، عند مئذنة العروس عادة، ويطلقون الأذان بصوت جماعي واحد، ويروى أن هذا الطقس بدأ في أواخر القرن الخامس عشر حين كان يجتمع الحجاج فيها لينطلقوا إلى مكة، لذلك لجأ المؤذنون إلى الأذان الجماعي ليًسمع الصوت في كل مدينة دمشق.
ويوضّح القائمون على المشروع أنهم حاولوا بقدر الإمكان أن يفلتوا من القضايا الموسيقية الخلافية: ما هو التراث الموسيقي؟ وما هو الفرق بين الشعبي والتقليدي والتجاري؟ وأين يكمن بالتحديد الموطن الأصلي لهذا النوع من الموسيقى أو ذاك؟ من خلال "الانتصار للقيمة الفنية أولاً، وللمتعة والبهجة ثانياً"، لافتين إلى أن أكثر من ثلث المقطوعات في الخارطة هي من أداء خريجي ومعلمي "مدارس العمل للأمل للموسيقى" في لبنان والأردن.