بينما كانت الفلسفة تواصل العمل داخل ورشتها على نحت البراديغمات المناسبة للتعامل مع أسئلة الزّمان والمكان، كان الشّعرُ في الأثناء ينحتُ هذه الأسئلة بطريقته الخاصّة، لا ليصل إلى إجابة واضحة قد تكون بمثابة رصاصة الرّحمة الّتي تخلّص الإنسان من حيرة ميتافيزيّقية مفترضة، بل ليتعمّق في محاولة جعل هذه الأسئلة مناسبة أكثر في كلّ مرّة يجدُ فيها نفسه شكلًا ما يزال ممكنًا من أشكال إقامة الإنسان في العالم.
هذه الإقامة الّتي لم تعُد تجد لنفسها معنى كافيًا في أزمنتنا المعاصرة، بعد أن صارت مشغولة بنوع من الزمنيّة الجديدة المؤذية لكينونتها، ونوع من الجغرافيا الجديدة الّتي يصبحُ فيها المكان شكلًا من أشكال الضبط الهُوويّ، لذات تبحثُ باستمرار عن الخارج دون الاهتمام بما يكفي بالدّاخل الّذي يعطيه معنى.
في هذه المسافة الفاصلة بين الدّاخل والخارج والعلاقة التبادليّة الممكنة بينهما، يتموقعُ الخطاب الشّعريّ في كتاب "خطّة بديلة" للشاعرة المغربيّة سكينة حبيب اللّه (الدار البيضاء، 1989)، وهو كتابها الشعريّ الرابع الصّادر حديثًا عن "منشورات المتوسّط"، ليعيد ترتيب أسئلته داخل هذا الأفق ويبني مساره السرديّ من خلال استعارة المكان، المكان الّذي لا يُقتَرحُ علينا الإمساك به أو النّظر إليه داخل مشهديّة متمجّدة، بقدر ما نُجَرُّ جرًّا إلى رؤيته وهو يتحوّل ويسيل في تكتكات السّاعة واللّحظات المنفلتة وثقل الأيّام المتعاقبة بلا جدوى.
وبينما نحنُ كذلك، نتفطّنُ فجأة إلى أنّ كلّ ما كان يحدثُ، كان يحدثُ في دواخلنا، في الوقت الّذي لم يكُن فيه الخارج شيئًا سوى المرآة الّتي نلمحُ فيها وطأة فكرة أنّنا نمضي إلى حتفنا، مثلما يمضي العالم مزهوًّا إلى حتفه. نمضي لأنّ "ما يسمّونه الماضي ليس في حقيقة الأمر إلّا قنبلةً يدويّة"، ونمضي لأنّه علينا أن نختار بين "أن نكون حقل الذرّة المحترق، أو النّيزك الّذي ارتطم به قبل أن يتفتّت إلى الأبد". نمضي لأنّنا "نتقدّم في السنّ على طريقة البيوت"، ونمضي لأنّ "السّقوط، السقوط العظيم، هو ما يجعل نهرًا يتحوّل إلى شلّال".
نتفطّنُ إلى أنّ كلّ ما كان يحدثُ، كان يحدثُ في دواخلنا
هذا الوعي العميق بوطأة الزّمن على الوجود الإنسانيّ وبفناء هذا الوجود وعالمه، جعل من هندسة المكان في كتاب "خطّة بديلة" تتوزّع على خطط استعاريّة مختلفة من أهمّها استعارة البيت. وإذا ما حاولنا رصد مختلف الوحدات المعجميّة والصور الشعرية الّتي تعلّقت بهذه الاستعارة، يمكن أن نخلُص إلى ثلاث ملاحظات أساسيّة: الأولى، أنّ الاشتغال على ثيمة البيت يبدو عملًا معجميًّا واضحًا في مستوى عنونة النّصوص، إذ نجدُ البيت دالًّا أساسيًّا في أكثر من نص (على طريقة البيوت/ على متن بيت/ جينالوجيا البيت/ لديّ بيت في مكان مّا)، والثانية أنّ العمل على هذه الثيمة يتحوّل في بقيّة النّصوص إلى تنويعات مرتبطة بها بطريقة أو بأُخرى، فيصير البيت أيَّ مكان له نقطة بداية ونقطة نهاية تتنازعان مختلف التحوّلات الطارئة داخله (الأعشاش، الطريق، الأبواب الّتي تنفتح وتنغلق، الثلاجة، المرآة، كادر الصّورة، علب السردين)، والثالثة أنّ هذا البيت الواحد المتعدّد لا يتوقّف عن التحوّل والتشظّي داخل الذّات الّتي تكتبه وخارجها على نحو يجعل من لعبة الدّخول والخروج وتحويل الذّات نفسها إلى مكان آهل بالأحداث من الأشياء الّتي لعبت دورًا أساسيًّا في تكوين ملامح الكون الشعريّ في هذا الكتاب (رفعَ الخوفُ الجدران في البداية؛ قبل أن يأتي الملل ويُثقّبها بالنوافذ/ لديّ بيتٌ في مكان مّا، أنا متأكّدة من ذلك، وإلى أن أجده، ستظلّ يداي تجهشان كلّ ليلة، بالمفاتيح/ شيء ما في الحياة يبعث على الخجل. يعرفُ ذلك البنّاؤون وهُم يرفعون الجدران في البيوت).
غير أنّ البيت الّذي تحاول سكينة حبيب اللّه كتابته ليس بيتًا من أحجار وإسمنت وأعمدة وأبواب، وإن أوهمتنا بأنّه من كنه هذه العناصر؛ بل بيت من القشّ والأشجار والأغصان والذكريات والأصدقاء والخيبات الإنسانيّة. إنّهُ بيت الشّاعر(ة) المتشرّد(ة) في الكلمات والأشياء، لا يبحث لنفسه عن معنى نهائيّ يريح أصحابهُ من أرق التفكير في "الآن" الّذي يتحوّل إلى ماضٍ عندما نفكّر فيه وإلى مستقبل عندما نتخيّله، ولا يرغبُ لنفسه في ميزة تداوليّة تجعله قابلًا للاستعمال العموميّ في الحياة اليوميّة، ليس لأنّهُ لا يريد ذلك، بل لأنّهُ لا يعرفُ نفسهُ إلّا أثناء الكتابة؛ الكتابة الّتي لا تعرف نفسها هي الأُخرى. من أين يأتي المعنى إذن؟ إنّهُ موجود في مكان ما مثل الزّمن، ورُبّما هما مترادفان في علاقتهما بالوجود البشريّ. الوجُود الّذي يتجمّدُ في صورة مدرسيّة تُثبّتُ فوق ملفّاتنا بدبّوس حديديّ يوضع "فوق شفاهنا الصغيرة الباسمة" بينما نكبرُ و"يتقاطر من أفواهنا الصدأ، كلّما حاولنا الكلام". الكلام الّذي يُقال، ثمّ يُنسى في المعاجم. الشّعراء بيوت أيضًا. وربّما في تشابه الدّوالّ بين البيت الّذي نسكنهُ في الواقع، والبيت بعدّه التسمية الّتي اختارها العرب
القدامى للوحدة العضويّة الّتي تجعل من الشّعر شعرًا، ما يكفي ليكون الشّاعر بعدّه موظِّفًا للكلمات، وموظَّفًا عندَها بيتًا لنفسه.
نتفطّنُ إلى أنّ كلّ ما كان يحدثُ، كان يحدثُ في دواخلنا
لقد نجحت سكينة حبيب اللّه في هذا الكتاب، في تقديرنا، مثلها في ذلك مثل العديد من الشّعراء والشاعرات الجدد الّذين برزت أصواتهم في العقديْن الأخيريْن، في أربعة أشياء: الأوّل هو جعلها لهشاشة الوجود الإنسانيّ منطلق الكتابة الشعريّة لديها على نحو نعيد معه تعريف الأدب على النّحو التالي: الأدب هو أن يكون الإنسان موضوعًا للشفقة. ولكنّها شفقة إنسانيّة مشتركة لا تستجدي أحدًا سوى نفسها ولا تنتظر شيئًا من العالم غير أن يكون أكثر ملاءمة لإقامتها فيه. والثاني هو قدرتها على بناء مجموعة من الاستعارات المركزيّة الّتي تتفرّع عنها بقية البنى الشعريّة على كامل الكتاب، وقد يعتبر هذا الأمر ملمحًا متواترًا في الكتب الشعريّة المعاصرة، حيثُ لم تعد النصوص مستقلّة بثيماتها الخاصّة، بل صارت إمكانيّة ما ضمن إمكانيّات مختلفة لثيمة واحدة تمتدّ على كتب بأكملها. والثالث، هو قدرتها الكبيرة على تطويع السّرد ليكون في خدمة الصّورة الشعريّة دون أن تسقط النّصوص في نثريّة قد تجعلها في بعض الأحيان أقرب إلى القصّة القصيرة أو بقيّة أجناس الكتابة النثريّة منها إلى الشّعر. وأمّا الرّابع، فيتمثّل في قدرتها على تجاوز تلك النزعة الأنثويّة المصطنعة الّتي نجدها في نصوص نسويّة كثيرة ترى كينونة المرأة مجرّد امتداد عرضيّ تشوّهه غريزة ذكوريّة ترغب فيه بلا توقّف. وإذ نجحت في هذا كلّه، صارت سكينة حبيب الله بالكتابة بيت نفسها، وبيتنا الّذي ندخلهُ بالقراءة لنعيد فيه اكتشاف أنفسنا.
بطاقة
سُكينة حبيب الله، شاعرة وكاتبة قصّة ورواية، من مواليد الدار البيضاء في المغرب عام 1989. صدرت لها مجموعة قصصية بعنوان "أشياء لا تنمو مرّتين" (2012)، ورواية "بيت القشلة" (2016). وفي الشعر، صدر لها: "ربع قرن من النظر" (2014)، و"لا لزوم لك" (2014) و"خمس فراشات منزوعة الأجنحة" (2017). و"خطة بديلة" هي مجموعتها الشعرية الرابعة.
* شاعر ومترجم من تونس