"عن الحقّ في الكذب": سِجال كانط وبنجامان كونستان

19 سبتمبر 2022
خوان ميرو/ إسبانيا
+ الخط -

غالباً ما تُقَدَّم سيرة الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط (1724 ــ 1804) بوصفها تعاقُباً ليوميات متشابهة وصارمة في مواعيدها ومهامّها، وهي صورةٌ ساهم إلى حدّ بعيد في ترسيخها عنه كتاب "أيام إيمانويل كانط الأخيرة" للبريطاني توماس دي كوينسي (1785 ــ 1859).

على أن سردية دي كوينسي حول صاحب "نقد العقل المحض" جعلت أجيالاً من القرّاء تتخيّل الفيلسوف الألماني شخصاً معزولاً عن محيطه، منعزلاً مثل النسّاك في بيت لا يغادره إلّا حين نزهته اليومية، وفي مدينة لم يخطُ يوماً خارجها؛ صورة تتضارب مع ما وثّقه التاريخ من سجالات للكاتب مع عدد من الفلاسفة المعاصرين له، وهي سجالاتٌ تُشير إلى اطّلاعه على اللحظة التاريخية التي كان يعيش فيها، وإلمامه بمجمل نقاشاتها العمومية والسياسية، والفكرية على وجه الخصوص.

في سلسلة "الفلسفة" التي تخصّصها منشورات "غارنييه فلاماريون" الفرنسية للطلّاب والراغبين في اكتشاف كلاسيكيات الفكر، صدر حديثاً كتاب "عن الحق في الكذب"، والذي يضمّ نصَّيْ السجال الشهير حول مسألة الكذب، بين الفيلسوف الفرنسي بنجامان كونستان (1767 ــ 1830) ونظيره الألماني إيمانويل كانط.

وكان السجال قد بدأ حين توجّه كونستان، في كتابه "عن ردود الفعل في السياسة" (1796)، بالنقد إلى "فيلسوف ألمانيّ" ــ وهو يقصد كانط دون أن يسمّيه ــ رأى أن الكذب يمثّل "أكبر تعدٍّ" على إنسانية الإنسان، الذي يختلف عن الحيوان في كونه كائناً أخلاقياً يضع لنفسه قواعد سلوكية يجب عليه احترامها، مهما اختلف الزمان والمكان.

كانط

وينتقد المؤلّف الفرنسي عدم مرونة كانط وعمومية نظريته، كما يفنّد نظريته الأخلاقية حول الكذب بوصفه واجباً، حيث يكتب: "إذا نظرنا، نظرةً بالمطلق، إلى المبدأ الأخلاقي القائل بأن قول الحقيقة هو واجب، فإن مبدأ كهذا سيجعل قيام أيَّ مجتمع مستحيلاً". ويضيف: "يُقال لنا إن قول الحقيقة واجب. لكن ما الواجب؟ لا يمكن فصْل فكرة الواجب عن فكرة الحقوق: فالواجب، بالنسبة إلى كائن ما، يُحيل إلى حقوق شخص آخر. وحيث ليس ثمة حقوق، فإنه ليس ثمة أيضاً واجبات. وهكذا، فإن قول الحقيقة ليس واجباً إلّا تجاه الأشخاص الذين لهم حقّ بالحقيقة. لكنْ لا حقّ للإنسان بقول حقيقة قد تؤذي إنساناً غيرَه".

وفي ردٍّ على انتقادات كونستان، وضع كانط نصّاً في العام نفسه (1796) تحت عنوان "عن الحق المزعوم بالكذب لأسباب إنسانية"، وفيه يرفض قول نظيره الفرنسي بـ"الحق في الحقيقة" أو بأن "الحقيقة قد تؤذي شخصاً آخر"، مُشيراً إلى أن الكذب والحقيقة لا يُعرَّفان في نسبتهما إلى الآخر، بل بصدقية الشخص أمام نفسه وأمام الإنسانية. ويضيف كانط أنه إذا كان "الكاذب لأسباب إنسانية" يكذب لتجنيب شخصٍ ما الأذى، فإنه بفعلته هذه يؤذي الإنسانية جمعاء، لأنه يمَسّ بواحد من أساسات حقوقها: قول الحق في أيّ ظرف كان.

يشمل الكتاب هذين النصّين، إضافة إلى "ملفّ نقدي" ملحق بهما أعدته الباحثة ماري هيلين لابورت، وفيه تضع سجال الفيلسوفين في سياقه التاريخي، كما تُقدّم شروحات للنصين وتعليقاً على الخلفيات الفكرية للسجال، وكذلك تعريفات لأبرز المفاهيم الواردة في النصين.

المساهمون