قُبيل الأحداث التغييرية الكبرى في المجتمعات تظهرُ شخصيات تلعب دوراً محورياً في استشراف المستقبل والنظر في أبعاده، عادةً ما يكون هؤلاء المفكّرون والمنظّرون أصحاب رؤى واسعة. في المقابل قد يستفيد الحدث التغييري من آرائهم ومبادئهم ولكن قلّما يبقى منتمياً كلّياً لها، وأحياناً ينقلب عليها.
بهذه المقاربة يمكنُ أن ننظر في سيرة المفكّر الإيراني علي شريعتي الذي استعاد "التلفزيون العربي" رحلته الفكرية والسياسية عبر برنامج "مذكّرات" في حلقةٍ وثائقية بُثّت يوم الخميس الماضي.
استعرض الوثائقي حياةَ من باتَ يُعرف لاحقاً بـ"معلم الثورة الإيرانية"، والذي شكّل حالة فريدة في إيران بل في الفكر الشيعي العالمي، إذ كان يرى مستقبل الإسلام خالياً من الملالي، وفي الوقت ذاته فقد كان سدّاً منيعاً في وجه الأطروحات الغربية، مع إيمان كامل بقيم العدالة الاجتماعية.
وُلد المُفكّر الإيراني عام 1933 في قرية تابعة لمدينة مشهد، وفي طفولته لعبَ والدُه محمد تقي شريعتي الدور الأهم في تكوينه الفكري والديني، إلى أن جاء الحدث الأبرز في مرحلة شبابه الأولى والذي تمثّل بوصول مُحمّد مُصدّق إلى رئاسة الوزراء (1951)، وهو ما نقله إلى حالة أرفع من الوعي السياسي، ولشدّة اهتمامه بعالم الأفكار وصّفَ ذلك في أحد كتاباته قائلاً: "دفعتني ظروف معيشتي إلى أن أشيخ باكراً في طفولتي".
ولكن وصول مصدّق إلى منصب حسّاس كرئاسة الوزراء لم يطُل؛ إذ عُزلَ بأمرٍ من الشاه (1953) وبضغطٍ أميركي. وفي هذا السياق تحدّث ضيفُ الوثائقي، الباحث حسن أشكوري، عن أنّ شريعتي كان يرى في مُصدّق قائداً له، وعليه انخرط في المظاهرات التي عمّت شوارع إيران بعد عزله، قبل أن يخوض تجربته الأولى في الاعتقال (1954)، ثم ليُعتقل مرّة ثانية (1957) بتهمة إهانة الشاه، وبعد خروجه توجّه إلى فرنسا ليتابع دراسته، وفيها أُتيحت له فرصة التعرّف على تيارات فلسفية وفكرية شتّى.
عودته إلى إيران عام 1964 لم تكن مختلفة عمّا كان عليه من رغبة في الثورة لإسقاط نظام الشاه بل تابع نفس المسيرة، كما ورد في الوثائقي، الأمر الذي أدّى لاعتقاله مجدّداً ليخرجَ بعدها ويعمل أستاذاً للتاريخ في "جامعة مشهد"، وفيها استثمر قدراته الخطابية لجذب الطلّاب وتحريضهم، خاصّة بعد بداية ظهور اسم الخميني على الساحة السياسية المعارِضة عام 1963. وقد حاولت السلطات استمالة شريعتي مراراً وخلق شرخ بينه وبين أقطاب المعارضة الأُخرى، فهوجمت "حسينية الإرشاد" في طهران التي كان يُلقي فيها خطاباته أكثر من مرّة بتهمة "الضلال".
بالوصول إلى عام 1971، كان العمل المعارض لنظام الشاه قد أخذ مساراً مُسلّحاً، واتُّهم شريعتي بمناصرته من خلال خطاباته، وهكذا اعتُقل وقضى قرابة 18 شهراً هذه المرّة ولم يخرج إلّا لتضعه السلطات تحت الإقامة الجبرية. لاحقاً تمكّن من الهرب خارج إيران، لكن بعد وصوله إلى لندن عُثر عليه ميتاً في أحد الفنادق، قبل عامين فقط من سقوط نظام الشاه (1979) الذي منع دفنه في إيران، ما يشير عند مريدي شريعتي إلى تورّط هذا النظام في اغتياله.
يُشار إلى أنّ وثائقي "مذكرات" الذي يبثّه "التلفزيون العربي" يستعرض شخصيات مؤثّرة في مرحلة تاريخية مهمّة بأسلوب "الدوكودراما" (مزيج ما بين الوثائقي والدرامي) ويرصد جانباً من أسرار تلك الشخصيات وكيف عايشت حقبة معينة من التاريخ، فالكثير من الأسرار احتوتها المذكّرات عبر الزمن ولم تنتشر بحكم الأمر الواقع، كما يرصد البرنامج مذكّرات لم تُنشر بعد.