آسيا الأوروبية مرّةً أُخرى

30 نوفمبر 2024
صورةٌ لـ يوكيو ميشيما خلال إحياء ذكرى رحيله الأربعين بطوكيو، 25 تشرين الثاني/ نوفمبر 2010
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- التحول نحو الترجمة المباشرة من اللغات الآسيوية الأصلية مثل الصينية واليابانية والكورية يبرز أهمية تقديم الأدب بصورته الحقيقية بعيدًا عن التحريف الأوروبي.
- رغم التقدم في الترجمة المباشرة، لا تزال بعض الآداب الآسيوية تعتمد على الترجمات الوسيطة، مما يعيدنا إلى النظرة القاصرة القديمة ويعيق تطوير مدرسة خاصة بالترجمة المباشرة.
- التحديات تكمن في سياسات النشر التي تفضل الجوائز على الجودة، مما يهمش المترجمين الأصليين ويهدد بتشويه الأدب الآسيوي تحت السيطرة الأوروبية.

بعد عقود مديدة من الاعتماد على اللغات الأوروبية في ترجمة الآداب الآسيوية، تنفّسنا الصعداء حين أثبت جيل أو جيلان أنّ المستحيل ممكن لو امتلكنا الرغبة والإرادة. بتنا قادرين أخيراً على قراءة آداب الصين أواليابان وكوريا بلغاتها الأصلية، فأدركنا، متأخّرين كعادتنا، أنّ الترجمة عن الترجمة ليست إلّا ضحكاً على الذقون، وأنّ معظم ما قرأناه بالعربية مترجماً عن الإنكليزية والفرنسية على الأخصّ ليس أدباً آسيوياً بقدر ما هو آسيا كما قدّمها لنا المترجمون الأوروبيون.

ثمّة آداب أُخرى ما تزال حبيسة اللغات الأوروبية (واللغة الفارسية، فجيراننا الإيرانيون يسبقوننا كمّاً وكيفاً في ترجمة الآداب العالمية)، وما تزال تنتظر مغامرين يدرسون تلك اللغات كي يترجموا عنها، بخاصّة الأدب الهندي (بلغاته العديدة) الذي لا نعرف إلّا نسخته الأوروبية. بدت الروايات الآسيوية، اليابانية على الأخص، وكأنّها روايات بلزاكية أو ديكنزية أو فوكنرية أحياناً، بدلاً من أن تكون أدباً في ذاته، له سماته وتفرّده وتميّزه من الأدب الأوروبي خصوصاً، وباقي آداب العالم عموماً. أمّا الشعر، فلا نكاد نعرف عنه شيئاً باستثناء أعمال قليلة جدّاً، من الصينية في الغالب.

وفجأة جاءت لعنة "جائزة البوكر الدولية" لتعيدنا قروناً إلى الوراء، بدلاً من أن تدفعنا إلى تنوّعٍ أكثر في الترجمة، ولا سيما أنّ معظم من يصلون إلى القائمة القصيرة للجائزة أدباء ممّا كنّا نسميه "العالم الثالث"، قبل أن ندرك أنّنا في عالم خامس أو سادس فعلياً مقارنة بغيرنا من الشعوب والعوالم. ما عادت الحسرة مقتصرة على جهلنا باللغات الأفريقية والأوروبية الشرقية والكاريبية، بل نكصنا في ردّة غريبة لنعيد اختراع العجلة ونترجم الأدب الآسيوي من الإنكليزية والفرنسية. لا أتحدّث عن الأدب الهندي أو الإندونيسي، بل عن لغات لها مترجموها المجيدون الذين أوشكوا على ترسيخ مدرسة خاصّة في الترجمة قبل أن تلطمنا لعنة الجوائز الأوروبية، فعدنا إلى النظرة القاصرة القديمة وبتنا نترجم على هوى تلك اللغات ومترجميها وناشريها.

أدركنا متأخّرين كالعادة أنّ الترجمة عن الترجمة ضحك على الذقون

تعاظمت الكارثة حين تخلّى مترجمون ممتازون عن مصدر قوتهم في ترجماتهم الجيّدة عن الإنكليزية والفرنسية، ليبدؤوا ترجمة الآداب الآسيوية عن لغات وسيطة، وكأنّنا ما زلنا في القرن التاسع عشر حيث الترجمة ومدارسها وخرّيجوها محض حلم لا واقع. وغنيٌّ عن القول إنّ أوّل الضحايا (بعد الأدب المترجم في ذاته) هم المترجمون عن اللغات الآسيوية الذين ما كادوا يتنشّقون نسيم تحرّر من كوارث الترجمة عن لغة وسيطة، حتى أجهز عليهم ناشرونا ومترجمونا وأخرجوهم من سوق النشر، ما خلا استثناءات نادرة، وكأنّنا عدنا إلى السبعينيات.

لا نعرف أسباب هذا النكوص المخجل، إذ ليس الأمر مرتبطاً بتمويلات، فالآداب الآسيوية تقدّم منح تمويل مغرية للناشرين. وليس الأمر مرتبطاً بارتفاع أجور المترجمين، إذ شهدت السنوات الخمس الأخيرة انخفاضاً في أجور معظم المترجمين، أكانوا يترجمون عن لغات سائدة أو نادرة. وليس الأمر مرتبطاً حتماً بقلّة عدد المترجمين عن تلك اللغات، إذ بات للمترجمين عن الصينية واليابانية والكورية صفحات ومجموعات ومنتديات ومؤتمرات، وفرضوا حضورهم بقوّة قبل أن تتذكّر دور النشر أنّنا لا نستحقّ ترجمات عن الأصل، فالمهمّ أن نلاحق الجوائز.

لا نستحقّ ترجمات عن الأصل، فالمهمّ أن نلاحق الجوائز

حين ظننّا أنّ معركة الترجمة عن لغة وسيطة كادت تنتهي، فاجأنا الناشرون والمترجمون بأنهم ما يزالون قادرين على ابتكار طرق جديدة لخيبة الأمل، بخاصّة أنّ هذه الترجمات تصدر عن دور نشر كبيرة مكرّسة، وبأقلام مترجمين لهم وزنهم وشهرتهم في الترجمة، بحيث يكادون يصدّرون صورة قاتلة بأنّ الترجمة عن لغة وسيطة ليس مقبولاً فحسب، بل مرغوب أيضاً، إذ إنّ فلاناً أو فلانة يترجمون اليابان وكوريا عن الإنكليزية والفرنسية، فلمَ تحاولون دوماً وضع العصيّ في عجلات التقدّم والتطوّر في الترجمة وفي سوق النشر؟

لسنا نحن، المعترضين على سياسة الترجمة الكارثية هذه، من يضع العصيّ في العجلات، بل لعلّنا تأخّرنا في الاعتراض حين تجاهلنا بداية هذه الردّة المرعبة في سوق الترجمة، فتكاثرت العجلات الصدئة وباتت العصيّ أكثر من أن تُعدّ، وحطّمت رؤوسنا بعد أن أجهزت على الترجمة. ولا تنفعنا هنا ذرائع الناشرين والمترجمين ولا احتفاءاتهم المخجلة بأنّنا "نقدّم الأدب المعاصر بلا تأخير"، إذ ما زلنا نتذكّر كوارث ترجمات الأدب الياباني عن لغات وسيطة، التي بدا فيها ميشيما وكاواباتا وكأنّهما خارجان من ثلوج جبال الألب، بخاصّة أنّ كلّ تاريخ الثقافة والأدب في آسيا ما يزال إلى اليوم محكوماً بالنظرة الأوروبية التي تواصل رسم مسار ثقافتنا، وباتت مؤخّراً، بمساعدة ناشرين ومترجمين كنّا نظنّهم أذكى من الوقوع في فخاخ واضحة، تحطّم أعظم نتاجات ثقافتنا، أي الترجمة التي ظنّت أنّها وصلت شاطئ الأمان بعد غرقها لعقود، فباغتها مثقّفونا بالاغتيال، كي يرسّخواا التعريف المكرور القميء الذي يرى الترجمة خيانة.


* كاتب ومترجم من سورية

المساهمون