ضمن "سلسلة ترجمان" في "المركز العربي للإبحاث ودراسة السياسات"، صدرت حديثاً النسخة العربية من كتاب "صنع معاداة السامية، أو، تحريم نقد إسرائيل" للكاتب الألماني أبراهام ملتسر بترجمة سمية خضر، ومراجعة رشيد بوطيب.
يناقش الكتاب تاريخ نشوء مصطلح "معاداة السامية" وتحولاته الدلالية، وكيف بدأت أوروبا، بعيد الحرب العالمية الثانية، تتنصل من تبعاته بوسم العرب والمسلمين به بسبب الصراع في الشرق الأوسط وفلسطين خاصة، إضافة إلى وسم كل من ينتقد السياسات الإسرائيلية بمعاداة السامية، حتى لو كان يهوديًا. كما يشدد، ويشرح بموضوعية، على أن انتقاد الصهيونية باعتبارها أيديولوجيا عنصرية فاشية ليس في ذاته معاداةً لليهود باعتبارهم مجموعة دينية.
ويدعو المؤلف إلى إعادة درس مصطلح "معاداة السامية"، في وقت تعاود فيه بعض الدوائر الغربية والأوروبية إعادة صناعته، وذلك بسحب استحقاقاته السياسية والتاريخية على شعوب أخرى. كما يدعو إلى كفِّ اللوبي الإسرائيلي عن استغلال "الهولوكوست" وعن اتهام مناهضي الصهيونية بمعاداة السامية.
يرى المؤلّف أن انتقاد الصهيونية باعتبارها أيديولوجيا عنصرية فاشية ليس في ذاته معاداةً لليهود باعتبارهم مجموعة دينية
يُعدُّ مصطلح "معاداة السامية" جديدًا نسبيًّا، بحسب الكتاب، إذ ظهر أول مرة في منتصف القرن التاسع عشر وانتشر بسرعة بين أوساط المثقفين والأساتذة الجامعيين، وكان من الممكن التخلّص من هذه المعاداة لليهودي بقبول العماد ليصبح مسيحيًّا، واستمر هذا حتى منتصف القرن التاسع عشر.
كما يشير إلى أنه لا يخفى على أحد وجود بقايا هذه القناعات المعادية للسامية في كل المجتمعات الأوروبية، إلا أنها غالبًا ما انحسرت جدًّا هناك، وما عاد الأمر كما في السابق. والحال أن أحزاب اليمين واليمين المتطرف السابقة، في فرنسا والنمسا وهولندا، مقتنعة بإلباس برامجها التي تحمل عداء للسامية زيًّا آخر في سبيل تحقيق نجاحها. أما في ألمانيا فكان لا بد لحزب البديل لأجل ألمانيا AfD من النأي بنفسه عن الأعضاء الذين يحملون فكرًا معاديًا للساميّة، حتى لو جرى ذلك على مضض.
ويبيّن أيضاً العالم الغربي بعد الحرب العالمية الثانية وبعد الهولوكوست منَح اليهود الناجين من المحرقة أرض فلسطين هديةً لهم، وذلك لاسترضائهم عن أخطائه التي ارتكبها في حقهم، وبهذا أقام اليهود الصهاينة دولة لهم على حساب الشعب الفلسطيني الموجود هناك في الأصل. ولم يكن دعم العالم الغربي للدولة اليهودية سوى تكفير عن الظلم الذي لحق بهم في أوروبا. وبهذا ظهر ظلم جديد، ظلم سواء أكان غير معلوم لكثيرين بعد السنوات الأولى لتأسيس الدولة اليهودية حتى عام 1967، أو ظلم جرى السكوت عنه بوعي ومعرفة.
ما عاد ممكنًا بعد حرب الأيام الستة في عام 1967 التغاضي عن الظلم الذي ألحقته إسرائيل بالفلسطينيين، ولا سيَّما بعد أن بدأ الشعب الفلسطيني النضال ضده، وفق المؤلف الذي يوضح بأن موقف الشعوب في كلٍّ من أميركا وأوروبا فقد كان منقسمًا: هناك القلة القليلة التي دعمت حق الفلسطينيين، في حين كان موقف الأغلبية العظمى الوقوف إلى جانب إسرائيل. لكن حينما ازدادت وتيرة انتقاد السياسة الإسرائيلية مع مرور الوقت، بدأ مروّجو هذه السياسة وداعموها في اتهام من ينتقد إسرائيل بمعاداة السامية وتوظيف هذه الاتهامات لخدمة أهدافهم.
ويشير إلى أنه ثمة كثير من الإسرائيليين ممّن يكذب على نفسه كثيرًا، وذلك لعدم الرغبة في تصديق أنهم يرتكبون ذنبًا في حق الشعب الفلسطيني. تقول إحدى أساطير تأسيس دولة إسرائيل إن الفلسطينيين لم يُطردوا من أراضيهم بل غادروها "طواعية". لكن هل رأينا في التاريخ مثالًا واحدًا عن لاجئين يخرجون من أرضهم طواعية: لا. ما يدهشني دائمًا هو عدم رغبة اليهود أنفسهم في رؤية هذا: أن التاريخ اليهودي حافل بالهجرات القسرية "الطوعية"، مثل الهجرات بسبب المذابح في روسيا وأيضًا الهجرات بسبب الاضطهاد في ألمانيا النازية.
ويختم بالحديث عن وقوف عدد كبير من الإسرائيليين واليهود في العالم على الضد من سياسات إسرائيل غير المفهومة ويرفضونها. والحال ذاته ينطبق على الأوروبيين الذين يبتعدون أكثر فأكثر عن إسرائيل للأسباب ذاتها. أما الصهاينة فلا يرغبون في استيعاب ذلك، بل يفضِّلون الاعتقاد أن كثيرًا من الناس في أوروبا، إن لم يكن جميعهم، لا يحبون اليهود. وهذا ما يجعل الأمور بالنسبة إليهم أسهل.