شكّلت لحظةُ الحَرْق التي قام بها الشابُّ التونسي محمد البوعزيزي، في كانون الأول/ ديسمبر 2010، الزمنَ العربي الجديد، ومن خلالها بتنا نعرف كمّية العنف الذي يستبطِنُه النظام العربي ضدّ شعبه؛ عنفٌ تراكم لعقود من الديكتاتورية والتأبيد قبل أن يُشعل المنطقة بالحروب ما زالت مستمرّة إلى الآن. ورغمَ أنّ الزمن بعد تلك اللحظة قد صار زمنَ ثورة، ومن المفترض أن نكون قد شيّعنا الأسباب المؤدّية لمثل ذلك، إلّا أن النظام العربي لم يتعلّم من دروس السنوات الماضية، ولم يزل يُثبتُ يوماً تلوَ الآخر استهتاره المُطلَق بحياة محكوميه.
من المغرب هذه المرّة، وفي صبيحة اليوم العالمي للمسرح، الذي يُصادف 27 آذار/ مارس من كلّ عام، جاء خبر حَرْق المُمثّل المسرحي أحمد جواد لنفسه أمام وزارة الثقافة في الرباط. مشهدٌ يَخالُه الناظر، للوهلة الأُولى، قادماً من نصّ تراجيديٍّ، قبل أن يكتشف أنّ الواقع أدهى وأمرّ. لم ننسَ بعدُ صورة الشاب البوعزيزي المحفورة في وجدان المنتفضين، وها هي صورةٌ أُخرى، لرجل تجاوز الخمسين، تُذكّر بأنّ الحريق قد عمّ، ووصل إلى "أبي الفنون"، ونال من خشبته التي من المفترَض أن تكون الرّحْم والملجأ لفنّانيها، إنْ ضاقت بهم السُّبل يوماً.
حجبت الوزارة الدعم عن نصّه الأخير "درس في الحبّ"
لا شكّ في أنّ المسرح هو فعلُ مواجهة مع السُّلطة، والتردّي العامّ في حاله على المستوى العربي يشكّل جزءاً من سياسة عامة، وصفَها الكاتب المغربي خالد الريسوني، في مقال له حول الحادثة، هنا على صفحات "العربي الجديد"، بأنها "سياسة الأرض المحروقة". الحَرق هذا شملَ النفوس قبل الأجساد. فرغم الاحتجاج المُمتزج باليأس والمتمثّل بإقدام المسرحيّ على حرق نفسه، إلّا أنّنا لم نشهد، بين أقرانه المغربيين والعرب، من المشتغلين في المسرح أو التمثيل، استنكاراً لما جرى، أو حتى استلهاماً رمزياً. فالجوائز والمهرجانات المسرحية والأُعطيات ما زالت جارية، وشركات الإنتاج التي تُغرِق المُمثّلين والمُمثّلات بالأموال، لمجرّد موافقتهم على عروض تلفزيونية في الموسم الرمضاني (التجاري): كلّ هؤلاء لم يصدر عنهم بيانٌ ولو من كلمة واحدة.
على الجانب الآخر، لم يمرّ الحدثُ المُفجِع مرور الكرام لدى بعض المُثقّفين والكتّاب والشعراء، كما أنّه زعزع صورة المؤسّسة الثقافية المغربية، فما قام به جواد ليست دعوة إلى الشكّ أو التمرّد العادي، بل تجاوزت ذلك المستوى بمراحل. كتب الشاعر محمّد بنّيس: "كان (جواد) مشدوداً إلى الوقوف ومشاهدة شخوصه تتحرّك في تفاعُل مع الجمهور. باحتجاجه المتكرّر كان ينذر بالطريقة الأسوأ لاحتجاج شخص شديد الحساسية بكرامته، فناناً، مُواطناً وأحد أفراد وزارة الثقافة، فيما لم يكن أحد يلتفت إليه".
عن الظروف الاجتماعية التي دفعت الفنان إلى الاحتجاج بهذه الطريقة، تحدّثت "العربي الجديد" إلى الناقد والباحث المغربي سعيد الناجي، الذي أوضح أنّ أحمد جواد قد خاض نضالاً مريراً من أجل إيقاف مشروع هدم "مسرح محمد عفيفي" بمدينة الجديدة، قبل أن ينتقل إلى الرباط، و"بقي دائماً يحسُّ بعدم اعتراف بمجهوده وفنّه". بين كلمات بنّيس والناجي صلةُ وصلٍ عميقة، حيثُ نستطيع من خلالها رسم صورة عن الحسّ الإنساني لدى الراحل، وأنّ الانشداد إلى الجمال، وحساسية تذوّقه له، قد صاحباه في مسيرته، وهو ما كان يقودُه للاصطدام الدائم بالمؤسسات الرسمية المهترئة.
منذ عشر سنوات وهو يُقابَل بالإهمال فيصعّد احتجاجاته
أمّا بيان وزراة الثقافة المغربية، والذي خاطبت فيه الراحل بصيغة المجهول، دون ذِكر أيّ صفة فنّية أو مهنيّة، بل فقط صفة "مواطن"؛ فقد أثار الكثير من ردود الفعل المُستنكِرة. إذ فضلاً عن أنّ المؤسسة لم تستجب لمطالب الراحل وهو على قيد الحياة، عادت لتؤكّد من خلال لغتها واقعَ حال القِيَم السُّلطوية التي تشتغل وفقها، وعلى رأسها النّبذ وعدم الاعتراف.
وكان جواد قد سبق له أنِ احتجّ على قرارات الوزارة، وطالب بمزيد من الدَّعم لعددٍ من عروضه خلال السنوات العشر الماضية، وآخرها "درس في الحبّ"، في شباط/ فبراير الماضي. عدا عن مطالبته، قبل ذلك، بلقاء الوزير للنظر في حالته المعيشية، حيث لم يتجاوز مُرتّبه 1800 درهم، ولكنّ البابَ سُدّ في وجهه دون طائل. ولعلّنا نتساءل في هذا السياق، ماذا لو كان هذا الطلب المُقدّم للوزارة عن تنظيم حفل موسيقي أو معرضٍ يُطبّع مع الاحتلال الإسرائيلي، هل كانت الأبواب عندها ستغلق أيضاً؟ بالطبع هذا سؤالٌ لا ينتظر إجابة...
ولمّا لم يُستجَب لطلب الفنان بحجّة تقادُم النصّ الذي قدّمه، حاول التصعيد من خلال الإضراب عن الطعام، قبل أن يكتب كلماته الأخيرة عبر حسابه على فيسبوك: "صدّقوني، لم أعُد أحتمل كلّ هذا العذاب، واعذروني على ما سأُقدم عليه في القادم من الأيام". تهديدٌ لم يطُل موعدُ تنفيذه، إذ ما هي سوى أيامٍ قليلة حتى فارق الحياة في "المستشفى الجامعي - ابن سينا"، في 2 نيسان/ إبريل الجاري، جرّاء حروق من الدرجة الثالثة نالت من جسده. وهنا، نتساءل أيضاً، إذا كانت الوزارة قد أوصدت أبوابها: فأين النقابة؟ وماذا عن العمل النقابي الذي من شأنه حماية "العاملين" (فنانين وغير فنانين) في الدولة ومؤسساتها؟
من جهته، كتب محمد بشكار؛ رئيس تحرير الدورية المغربية "العلَم الثقافي"، والتي كان الراحل يكتب فيها، أنّ جواد كان قد سلّمه نصّاً مسرحياً أخيراً بعنوان "هو". وأوضح بشكار أننا هنا أمام مشاكلة بين غيابَين، بل كأنّ جواد كان يستقرئ الطريقة التي ستراه فيها الوزارة بعد موته. يكتب بشكار مخاطباً جمهور القرّاء: "الـ'هو' أنا وأنت وأنتم وكلّ الوعي الجمعي الشقيّ، بل إنَّه يُجسِّد المظاهر البشعة التي يعيش مِحْنتها أهلُ الأدب والفكر والفنّ في هذا البلد. لا أُبالغ إذا قلتُ إنّ هذه المسرحية تعكس جليّاً السِّيرة الحياتية للفنان أحمد جواد، وقِسْ على ذلك إلى آخر الكفَن، سيرة كلّ الذين يُكابدون التَّهميش والإقصاء. ألم تر كيف تُفقِّرُ الأقلّيةُ فاحشةُ الثراء أغلبيةَ المجتمع التي لا تجدُ معاشَ يومها؟".
أخيراً؛ كان المسرحي البريطاني بيتر بروك (1928 - 2022) يرى المسرح حيّزاً من الفراغ؛ بسيطاً لا يحتاج أيّ تعقيد: يُمكنُ لأيّ إنسان أن يمشي في حيّز فارغ، بينما يُراقبُه الآخرون، وعندها يتحوّل هذا الحيّز إلى مسرح قائم بذاته. قد تكون استعارات كهذه مُستنفَدة قيمتُها أمام هول الموت الذي دُفِعَ إليه أحمد جواد، وهو يخرق الفراغ أمام وزارة الثقافة المغربية بجسده المشتعِل، مُجترحاً فعلاً أكبر من المرجعيّات والمؤسّسات، في حين اكتفى آخرون بالمراقبة بمعناها السلبي، الذي يعبّئ المشهد أسىً ويأساً.