رحيل الفنّان المسرحي أحمد جواد، جرّاء إضرام النار في نفسه يوم المسرح العالمي 27 آذار/ مارس الماضي، حادثٌ أليم ومأساوي بكلّ المقاييس، ويطرح العديد من الأسئلة حول وضعيّة الفنّان المغربي والعربي بشكلٍ عام، وظروف حياته الاجتماعية.
كان أحمد جواد فنّاناً مسرحياً، وناشطاً ثقافياً بامتياز، ولكنّه كان يعيش ظرفاً صعباً، ولطالما تبرّم من ذلك، وطالب بنوعٍ من التقدير لوضعه، وهو وضعٌ يعيشه العديد من الفنّانين في العالَم العربي. عاش أحمد جواد في مدينة الجديدة، وخاض نضالاً مريراً من أجل إيقاف مشروع هَدْم "مسرح محمد عفيفي" في المدينة، قبل أن ينتقل إلى الرباط، حيث بقي يحسّ، دائماً، بعدم اعترافٍ بمجهوده وفنّه، كما كان، دائماً، يهدّد بالانتحار احتجاجاً على الإهمال.
لم يحقّق المسرح المغربي كثيراً على صعيد الحماية الاجتماعية للفنان
ربّما لم نُنصت إليه بما يكفي، وربّما أخدتنا دوشةُ الحياة عن الانتباه إلى ما عند هذا الفنّان، وغيره ممّن يُعاني الاكتئاب واليأس. رحيلُه يُحاكم ضميرنا جميعاً، ويشهد على الفردانية التي أصبحت تحكمنا. كنّا جميعاً نقرأ تدويناته اليائسة على منصات التواصُل الاجتماعي ونستسهل الأمر، وتأخذنا نقرات الحاسوب إلى ضفاف أُخرى؛ لقد أصبحنا أنانيّين وآليّين بشكلٍ شبه مُطلق.
أذكر أني كتبتُ يوماً مقالاً بعنوان "لماذا لا يدقّ المسرحيُّون المغاربة جدرانَ الخزّان؟"، فعلّق عليه الراحل: "شخصياً دققتُه كذا مرّة ولا مَن يسمع".
ورغم ذلك، كان بالإمكان تجنّب هذه المأساة، لأنّ الاحتجاج بهذا الشكل لا يفيد كثيراً. والعديد من الفنّانين، رغم صدمتهم بهذا الحدث، لم يوافقوا على اختيار أحمد جواد لهذا القرار. ولكنّه، كما قال الشاعر محمد بنيس "فعلَ بيد اليأس ما هو أبعد من الاحتجاج، وأقسى على صاحبه وعلينا جميعاً. اليد التي أغلقت في وجهه المسرح، نافذته الوحيدة على الحياة، مُختفية وراء ستارٍ من الكلمات".
الحادثة الأليمة تدفع إلى التساؤل عن تفاعُل وزارة الثقافة مع وضعيّات استثنائية للفنّانين، وفي الآن نفسه، التساؤل عن وضع الفنان المسرحي اجتماعياً، وعمّا بذلته وزارة الثقافة لتحصينه؛ فالمسرح المغربي رغم ديناميّته وحركيّته الإبداعية، ورغم المسافات التي قطعها في ترسيم قانون الفنّان، لم يحقّق كثيراً على صعيد الحماية الاجتماعية للفنان، ولم تنقطع المطالبات باتخاذ إجراءات عملية لصيانة كرامة الفنان، وتأمين ظروف اشتغاله وحياته الاجتماعية.
تفاعل المشهد الثقافي برُمَّته مع الحداثة، بيانات تأبين من "اتحاد كتاب المغرب"، ومن "النقابة المغربية لمهنّيي الفنون الدرامية"، ومن مثقّفين وشعراء، بل وصلت الحادثة الأليمة إلى البرلمان المغربي، وساءل برلمانيون وزير الثقافة، وطالبوا بفتح تحقيق في الحادث.
باعتقادي الأمر أعمق من نقاش في البرلمان، رغم أن هذا النقاش مهمّ، ولكن هل سيُفتح تحقيق؟ هل سيقود النقاش في "المؤسسة التشريعية" إلى خلق وضع جديد للفنان؟ وإلى حمايته من صروف الدهر؟ هل سنحقّق بُنية ثقافية وفنّية تضمنُ للفنان العَيش الكريم من جهده الفني؟ هذه أسئلة لا يتوقّف عن طرحها يومياً الفنّانون المغاربة. وربّما كان أحمد جواد اختار الجوابَ الأقصى والأقسى في الآن نفسه؟ كان اختياره قاسياً على نفسه، وعلى عائلته، وعلينا.
وسواء اتّفقنا أم اختلفنا مع المرحوم أحمد جواد، فالحدث فارق، واستقلّ بنفسه كحدثٍ درامي دالٍّ ثقافياً وسياسياً، ليلقي حجراً ثقيلاً في بركة المسرح المغربي الآسنة. والغريب أنّ هذا الحادث جاء بعد أيام على تنظيم وزارة الثقافة يوماً دراسياً لتجديد الرؤية إلى سُبل تطوير المسرح المغربي.
لقد أصبح مُلحّاً التفاعُل مع مطالب المسرحيّين المغاربة، لتحقيق ظروفٍ مِهَنيّة ومعيشيّة مُحترمة. ولعلّ الرسالة العميقة لهذا الحدثِ المأساوي هي أنّ تَرْكَ الثقافة في وضعيّة ركودٍ أمرٌ لا يُنبِئ بخير.
* مسرحي وناقد من المغرب