أحمد عظيمي.. عن بلد تخصّص في الفرص الضائعة

29 ديسمبر 2020
من أحداث "الحراك"، فبراير 2020 (Getty)
+ الخط -

سَنَحت للجزائر، غَداة الاستقلال، فرصة حقيقيّة لوضع الأسس الصلبة لبناء الجمهورية؛ لكن الانطلاقة لم تكن بحجم التطلُّعات، اختلفَ "الإخوة الأعداء" فتأجّلتْ أحلام الدولة "الوليدة". استمرّ التخبّط إلى نهاية السبعينيات؛ وقتها، لم تُؤخذ فكرة مواصلة تشييد الدولة الحديثة على محمل الجدّ، وفي عام 1989، تغيّر المسار بِرُمَّتهِ؛ وتوجّهت الجزائر في فترة الإرهاب الأعمى، نحو المجهول. ضاعَ حلم أجيال في دولة ديمقراطية، ذات نظام سياسي تعددي وعصري. أما الفرصة الثانية فكانت مطلع الألفية الثالثة، مع "البحبوحة" المالية غير المسبوقة، وعِوض التفكير في إعادة بناء الجزائر الجديدة، وخلق نهضة شاملة؛ استولتْ العُصبة الحاكمة على مُقدَّرات البلد، وعاثَت فسادًا؛ فانتقلت الجزائر من عشريّة الدم إلى عشريّة الهدم، والعبارة للكاتب الجزائري أحمد عظيمي.

في كتابه "شاهد على خيانة وطن" الصادر في آب/ أغسطس الماضي عن منشورات "الوطن اليوم" في الجزائر؛ يورد عظيمي؛ شهاداته وآراءه وانطباعاته ومواقفه وقصته كرجل خدم في الجيش لثمانية وعشرين عاماً، وتقاعد برتبة عقيد، وعودته إلى الحياة المدنية، ومن ثمّ مشواره في التدريس والتحليل، ومعارضته نظام الرئيس بوتفليقة وتجربته الناقصة في التحزّب.

بدايةً؛ يصف عظيمي، رحلته الشاقّة في العودة إلى الحياة المدنية، والصعوبات التي واجهها، كعسكريٍ؛ تقاعد وهو في الخمسين، تعوّد لعقود من الزمن على الانضباط والنشاط المتواصل، ليجد نفسه قابعًا في البيت، بغير عمل. وفي هذا الفصل يحاول تصحيح الصورة المشوّهة جدًا - كما يقول - عن ضبّاط الجيش الوطني الشعبي؛ بأنهم منتفعون استغلّوا امتيازاتهم لتكوين ثروة مشبوهة. أما في الحقيقة، يؤكد عظيمي؛ فقد كان من بين أصدقائه الجنرالات الذين عرفهم جيّدًا؛ من لم يملك بيتًا، ولا تجارةً، ولا قطعة أرضٍ عبر الجزائر كلها. طبعًا مع بعض الاستثناءات؛ والتي لاقت جزاءها بالسجن، كما يقول.

حين انتقلت الجزائر من عشريّة الدم إلى عشريّة الهدم

مرّت الأشهر، بعد تقاعده؛ وهو بدون وظيفة، فدعاه صديق للعمل معه، في الديوان الوطني للخدمات الجامعية، لم يعمّر هناك طويلاً؛ ترك العمل، بعد فترة خمسة أشهر فقط؛ اعتبرها عظيمي، من أسوأ الأشهر في حياته؛ فقد اطّلع عن قربٍ على كل أنواع الفساد المتغلغل في الإدارة الجزائرية، وعلى كل المستويات؛ من خلال سيطرة التنظيمات الطلابية وتقاسمها للمنافع.

بعد حصوله على وظيفة التدريس في الجامعة، يسترسلُ أستاذ العلوم السياسية والإعلام، في التحدّث عن وضع الجامعة، وأسباب تقهقرها. لم تكن البداية سهلةً كما قال، فقد فُوجِئَ بجامعةٍ ليست كالجامعات؛ وهو الذي كان محظوظًا في إكمال دراساته العليا، وحصوله على شهادة الدكتوراه من جامعة غرونوبل الفرنسيّة؛ لذا اطلع على تجارب الآخرين، وعاين المستوى الذي وصلوا إليه والمناهج التي يعتمدونها. بدأ يكتشف أن المجال الذي كان يحلم بالعمل فيه ملوّث ومشوّه وفاسد. 

وعدَّدَ من أسباب تدهور الجامعة الجزائرية؛ فترة الإرهاب العصيبة، مما أدى إلى هجرة الأدمغة، وتفضيل الرداءة على الكفاءة، وسيطرة حزبَي السلطة (FLN) و(RND) على الجامعة، وكذلك التلاعب بنتائج امتحانات الماجستير، دون نسيان غياب النقاش والنقد البنّاء داخل أسوار الجامعة، مع الرقابة المفروضة على البحث العلمي. هذه الأسباب وغيرها؛ جعلت من مستوى الجامعة يتدهور في التكوين والإنتاج العلمي.

وفي ما يخصّ الحلول المقترحة من أجل إخراج الجامعة من انغلاقها وتنازلها عن دورها القياديّ، وعودة نخبتها للمشاركة في النقاشات، يعترف عظيمي بأنّ كل إصلاح أو تغيير، مرتبط ارتباطًا وثيقًا بتوفّر الإرادة السياسية، ولما تتوفر هذه الأخيرة، يمكن اتخاذ قرارات شجاعة؛ منها اِبعاد السلطة السياسية تمامًا عن الجامعة وعدم التدخل في شؤونها إلا في ما يتعلق بالتمويل المالي، والأهم؛ التركيز على الجودة بدل الكم وغيرها.

أحمد عظيمي

لم يدّخر عظيمي جهدًا، في انتقاد فترة حكم الرئيس عبد العزيز بوتفليقة؛ واعتبرها مرحلةً سوداء في تاريخ الجزائر. فبوتفليقة؛ جاءَ به العسكر لكنه سرعان ما تخلّص ممن جاؤوا به ليصبح منذ 2004، الحاكم الوحيد بأمره، عمل على تدجين الطبقة السياسية ومعها النخب الوطنية وإضعافها، كما عمل على تفريغ كل مؤسسات الدولة من كفاءاتها. حدث كل ذلك أمام أنظار الأحزاب السياسية والمجتمع المدني دون معارضة، بل العكس، فقد صمت كثيرون مقابل حصص في البرلمان أو الحكومة والمجالس المحلية، يقول عظيمي.

ويحمّل عظيمي، الرئيس بوتفليقة؛ كل السلبيّات التي حدثت وتحدث، كونه هو الذي شجّع على الفساد السياسي؛ الذي يعدّ أخطر أنواع الفساد لأنه المشجّع على ممارسة كل الأنواع الأخرى للفساد. وقد أصبح نظامًا داخل النظام. فبوتفليقة ضيّع بسياسته الحمقاء كما يصف عظيمي، فرصة لا تعوّض أبدًا لبناء دولة عصرية قويّة، وبدلاً من الانتقال نحو الديمقراطية والحكم الراشد، انتقلت الجزائر في عهده إلى نظام فاسد ومتعفن.

أما حيلة بوتفليقة في التعامل مع المعارضين، يوضّح عظيمي من خلال تجربته الشخصية؛ فهي عدم تحويلهم إلى أبطال وطنيين؛ عن طريق سجنهم أو تعذيبهم، بل خنقهم عن طريق التهميش وإغلاق كل مجالات الاتصال والنشاط في وجوههم، ثم الإشارة لوسائل الإعلام التابعة له بنهش أعراضهم وتشويه سمعتهم. 

في ما يخصّ الحراك؛ يرى عظيمي أن شعار "مدنية وليست عسكرية"؛ الذي رفعه شباب الحراك، يبقى مجرد شعار غير قابل للتطبيق على الواقع الجزائري؛ بدون بُروز طبقة سياسية وطنية واعية وقويّة، ومستعدة للنضال من أجل بناء دولة عصرية تشمل الجميع بدون أي إقصاء.

وكخلاصة للكتاب، يذكّر عظيمي؛ بالمضايقات التي تعرّض لها من السلطة ومن المحيط، من أجل السكوت، مع ذلك لم يفعل؛ لأنه مقتنعٌ بأن الصمت خيانة للعهد الذي قطعه على نفسه، وخيانة للوطن. ويرى عظيمي؛ أنه لا حلّ أمام الجزائر إلا الحلّ الديمقراطي، فإما أن نقبل به ونعمل جميعاً على تجسيده؛ فتتحرّك الجزائر نحو الأمام، أو نعرقله؛ فتتأخر ويسوء الوضع أكثر، ويصبح هذا البلد متخصّصًا في الفرص الضائعة على يد سياسييه وعسكرييه.


* كاتب من الجزائر

المساهمون