أرضٌ تحبُّنا رغم كلّ شيء

29 مارس 2021
زوريتا في معرض غوادالاخارا، 2015 (غونزالو غارسيا)
+ الخط -

"إنّكِ اللّيلُ، 
اللّيلُ - يا زوجتي - في ساعةِ طاقتِه
القَمَرِيَّةِ والأُنثوية البالغة
إنّكِ الليلُ يا زوجتي في منتصفِه:
وأنتِ الظلُّ في أَوْجِه
حيثُ يَبلغ الحُلمُ ذروَتَه، والحُبُّ يبلغُ غايتَهُ".

لقد أتيت أًردّد هذه السطور كتعويذة تقريباً، كنبضٍ يَدقُّ خلف صدغي ولا يدعني. إنها مطلع قصيدة "ابن النور والظلّ" لميغيل إرناندِث، وهي واحدة من أعظم القصائد المكتوبة بالإسبانية، ووددتُ تذكّره هنا كشهادة، أمام حضراتكم وأمام شعراء إسبانيا والبرتغال، على إعجابي وعرفاني وتقديري. اليوم، في اليوم الدولي للقضاء على العنف ضد المرأة، آتي لأشكر عميق الشكر ذلك الامتياز العظيم الذي أعطيتموني بمنحي هذه الجائزة التي تحمل اسم جلالتكم، ولأعبّر لكم عن عرفاني لـ"جامعة سلمنكا" ولـ"لجنة التراث الوطني". إنه لشرفٌ عظيم أرى فيه تكريماً لنهر الشعر الكبير الذي لسنا، جميعاً، سوى حلقاتٍ صغيرة في سلسلته. أستقبل إذاً هذه الجائزة بسعادة، وفخر، وفي الوقت ذاته بحياء وخجل. إنه لكثيرٌ كلّ ذلك الذي لم نفعله، وكلّ ما لا نستطيع فعله، وكل ما علينا منْحه وما قد لا يسعفنا الوقتُ لمنحه.

لقد جئت من بلد المختفين قسريّاً، الذي نزل بحماسةٍ إلى الشوارع في كفاحه لاسترداد كرامته - والشِّعر جزء من هذا الكفاح. لم تُستردّ الأجساد، فجسد الزوجِ لم يُرَدّ إلى زوجته، ولا إلى الطفل الصغير جسدُ أبيه، ولا إلى العجوز جثةُ ابنه. والشعراء هم من كان عليهم أن يهبطوا إلى دفء الأرض التي آوت تلك البقايا، وإلى زبد البحر الذي يهدهد تلك الأجساد المُهشّمة، وإلى رمال الصحراء شديدة الجفاف التي حفظت صدورهم المُهَشَّمَة، وأن يسترجعوا الكلمات التي لم يستطع أولئك المختفون أن يقولوها لنا أو أن يقولوها لأنفسهم. وقد كان من نصيب الشعر أن يقيم جنازات الغائبين، ويوقف حيواتهم، ويدفن في مقابر اللغة ما كان على الأحياء دفنه في مقابر موتاهم.

كل قصيدة ميناءُ نهرٍ سحيق من الموتى الذين ينتهون فينا

لا تغادرني هذه اللحظة المروّعة التي يمرّ بها العالم، مما يجعلني أشكركم شُكراً مُضاعفاً على إقامتكم هذا الحفل بحضورٍ جسديّ. إننا نعرف أن مئات الآلاف قد ماتوا، إلى جانب تَتِمَّةِ المأساة والمظالم والتفاوت الوحشيّ الذي كشفته الجائحة بكل براهينها المرعبة. لقد متنا - مُطلّين من أطرافِ الحياة، ساكنين تورُّم جراحاتها - في كل جسدٍ يموتُ. وقد كُتِمَت أصواتُنا في كل واحدة من تلك النهايات الصامتة، دون أحضانٍ، ودون آمال. وقد أبصرنا كذلك، بأعيُن دامعةٍ، وفي أحلكِ موضعٍ من الألم، نسيج حبٍّ لا يقبل الزوالَ، راسخاً في قلب الأرضِ ذاتِه. هذه الأرض التي تحبُّنا رغم كل شيء.

إنّنا نبكي، ونولد، ونسقط في معارك ليست لنا، ونرى حدود عواصمِ الألم - كما دعاها بول إيلوار - في كل مرةٍ أكثر وضوحاً. وندرك أنّ في بلوغ الحبّ منتهاه ثواباً رحيماً لنا عن كل تفاصيل العالم، عن هذه الورقة التي تسقط وهذه الورقة التي تنبُت، عن الرائحة التي يتركها المطر على الأشجار، وعن ذلك الكائن الذي يولد معانقاً صليب جسده، وهو الجسد نفسه الذي سيموتُ مصلوباً.

في عالمٍ من الضحايا والجُناةِ، الشعرُ دائماً هو الضحية الأولى. لكنه أيضاً أول من ينهض من موته ليقول لنا، نحن الناجين، إن أياماً جديدة ستأتي، رغم كل شيء. حاولت وصف تلك الأيام، ولعلّ هذا هو السبب الوحيد الذي أقف من أجله هذا الموقف. لقد تخيّلت حكاياتٍ طويلة مذهلةً، وقصائد لا نهاية لها انمحت من ذاكرتي كالغبار بين الأصابع في لحظة كتابتها؛ لقد رأيت المحيط الهادئ مُعلّقاً على قمم جبال الأنديز، وأسراباً من الطائرات ترسم بسطور من الدخان في السماء وجهَ أُمي آنا كانيسّا التي ما تزالُ تسمعني وهي في السادسة والتسعين من عمرها. تذكرت وجه شخصٍ لا أستطيعُ تذكره: وجه أبي الذي مات وعمره واحد وثلاثون عاماً، يحملني لهُنيهةٍ أخرى بين ذراعيه.

في عالم من الضحايا والجُناة، الشِعر هو الضحية الأولى

 لقد أبصرتُ صحراواتٍ تملأ رمالَها الكتابةُ، وبلداناً مصنوعةً من الحبّ والموت ألتقي فيها مَن أحببتُ ومَن ربّما أحبّوني، قبل أن يتلاشوا في أحلامٍ لا تُفَسَّرُ. لقد هشَّمتُ نفسي، وحاولتُ أن أصيبها بالعمى لظنّي أنّني ربما أقدر على التوحّد مع بلادي المُعذّبة، والإمساك بين يديّ لوقتٍ أطول بأيادي الحب المختفي، لكنّ حُبّي لم يكن كافياً. لقد وهبتُ نفسي، فها هي الكُتبُ التي كتبتُ بكُلِّ ما فيها من الحُبِّ والبُغض، لكن عطائي لم يكن كافياً، ولا أعلم إن كنتُ لأدرك أن أحلم بتلك الصور والكلمات الأخيرة التي هي دَيْنُ كلِّ شاعرٍ للعالم.

ثمة، في هذه الدقيقة، قارب يغرق بالمهاجرين المبتَلِين بمسار تاريخٍ نحن جميعاً جزء منه، تاريخٍ لم يتوقف عن إبداء عنفه، وانعدام شفقته، وقسوته، ولامبالاته. مثلهم كمثل مَن يموت - في الوقت ذاته - أمام حدودٍ مغلقة. في هذه الدقيقة، في مكان ما، هناك مدينة تُقصفُ. لذلك ندرك أن الواجب لم يكن كتابة القصائد، ولا رسم اللوحات، ولا تأليف السيمفونيات، بل أن نجعل من الحياة عملاً فنيًّاً، أجمل الأناشيد وأرحَبَها، السيمفونية العظيمة الوحيدة التي تستحقُّ عناء أن نكافح ونموت أمامها. لكننا لم نفعل ذلك، وفشلُنا عن فعله لا يجعل لأي شيءٍ قيمةً. إننا لم نَبْنِ الفردوس. لم نجعل من هذا العالم عالماً جدياً، ولم تكنِ الحياةُ الجديدة.

لكن هذا الفردوس بالتحديد، هذا العالم الجديد، هذه الحياة الجديدة، هي سببُ وجود كل القصائد، كل بيت فيها، وكل واحدٍ من مقاطعها وحروفها. إن كل قصيدة ميناءُ وصول نهرٍ سحيق من الموتى الذين ينتهون فينا، وفيها تذهب كلماتُنا الحيّةُ تلتقط الكورس اللانهائي للكلمات التي ماتت. قد لا يعدو الأمرُ ضرباً من الهذيان، لكنني وصلت إلى الاعتقاد بأن تاريخ كل لغةٍ هو تاريخ الأشخاص، الذين لا يُحصَون، الراقدين تحت كل صوتٍ ننطق به، وحين نعود لاستخدام هذه الأصوات، وهذه السكنات، وهذه الحركات، فنحن نمنح ذلك البحر القديم من الأصوات أصواتَ يومٍ جديد. إن الكلام نفخٌ للروحِ في الأموات وإحضارهم من جديد. واللغة، قبل أي شيء، فعلُ حبٍّ، وهي "الحب المستمرّ ما وراء الموت" - بتعبير فرانثيسكو دي كيبيدو - الذي يتجاوزنا كل التجاوز لأنه البعثُ الوحيد الذي نراهُ في العالم.

في هذه الدقيقة، في مكان ما، هناك مدينة تُقصفُ

إننا نموتُ في لغاتنا الأمّ ونعود للميلاد فيها. هذا هو رهان الشعر الجنوني. لن يستطيع الشعرُ هزيمة ديكتاتوريةٍ، ولا علاج وباءٍ، لكن لا شيء ممكناً دون الشاعر، لأن الأمل في يومٍ جديدٍ قابعٌ في أعمق نقطة من بئر الحُلم الإنساني التي لا تنضب. عندئذ نلمح معالم التضامن والعدالة، التي لا حصر لها أيضاً، وهي تنطق الكلمات التي لم تعرفها إلّا قصائدنا، والتي لم يعرفها إلّا عطشنا، وجوعنا للحب؛ كلمات سترى فيها الجموعُ المتعاقبةُ صورَ هذا العصر وتسأل نفسها عن تلك الحقبة البربرية والوحشيّة. لن يبقى هنالك شيءٌ منّا، ومع ذلك فشيء من أعيننا الميتة سيُطِلُّ ناظراً من خلال العيون الحيّة. هكذا نحدِسُ أنّ الواقع الوحيد الموجود ربما هو ذاك الذي يُرَى في الدموع: انعكاس العالم الشبيه بقوس قزح والذي لا تلتقطه إلا الأعين التي تبكي. كأنهم ينادوننا من ذلك الضباب فنخمّن ملامح الآخر التي ما تزالُ مشوّشة، ومعالم وجهِه المغطّى الذي يقترب وكأنه يريد تقبيل رأسنا المغطّى ليؤكّد لنا فقط أن إمساكنا بحياةِ إنسانٍ آخر بين ذراعينا، وأن إمساك حياة الآخر بنا بين ذراعيها، هو جوهر الأمر: الألم، والحماسةُ، ودهشة الوجود الميؤوس منها أحياناً.

لقد أقمنا وأقعدنا بهذه الطريقة عالماً من بعد عالمٍ، لكن حبّنا لم يكن كافياً. لقد كتبنا مع رفاقنا جزءاً ربّما يكون من أعظم قصائد جيلنا، لكنّ القصائد العظيمة تكون ذات قيمةٍ فقط إن كانت تحثُّ على الطِّيبة، لأنّ الشعر، عبر هذه الطيبة فقط، سيؤدّي الدور الوحيد الذي يمنحه معنىً: الاحتفاءَ بالحياة، وبكاءَ الموت، ورسْمَ تلك الملامح التي لم تُتَخَيَّل بعدُ لأبديةٍ جديدة على الوجوه الإنسانية التي ضربتها المطارق. لأنّ القصيدة توجد فقط إن استطاعت مقاومة عاصفة الأبدية، وإنّ أحد أقسى شروطها التي لا يمكن إنكارها أنها لا يمكن لها إلّا أن تكون غير عادية. لا وجود لقصائد صغيرة، ولا لشعر حميم، كما لا وجود لشعر اجتماعي، ولا شعر برّاني، ولا شعر تجريبي، ولا شعر مضاد. الشعر الوحيد الذي يوجد هو ذاك الذي يمكن أن يُهمَس به لإنسان يموت أو يُقرأ بصوتٍ عالٍ أمام البحر.

إنني أتحدث، إذاً، عن الألم وعن لغةٍ تتحدثها ملائكة ستكون في انتظارنا أو لا تكون، سنسمعها أو لا نسمعها؛ هي لغة الذين يلتقون، ومَن لا يستطيعون إلا أن يتعانقوا، ومَن لا يملكون احتمالاً آخر في هذا العالم سوى التعانق، بعيداً عن الجوائح، بعيداً عن الحياة والموت. ليست الإنسانية شيئاً آخر غير ذلك، أو غير مجرّد الحُلم به. ليس الأمر سوى إثباتٍ بسيط: لا نستطيع الآن التعانق، لكن ما من شيء يدومُ أو يعيش خارج العناق. أن تكون إنساناً يعني أن تملك من حينٍ لآخر إمكانية تذكّر ذلك. وأن تكون مجرماً، أو ديكتاتوراً، أو مرتكب إبادة جماعية يعني أن تُمنح الفرصة من حين لآخر لنسيان ذلك.

أنهي، إذاً، هذا الشكر بعناقي، بغاية حبّي، بحياتي، بلَيْلي، بنومي ويقظتي:

لكِ أنتِ باولينا، هذه القصيدة من فنّانٍ مُمزّق.
فجر، كانون الثاني/ يناير، 2020:
"ليس مِنْ هذا الذي ينظر إليك بينما تنامين،
سوى إشارةٍ، فَجَسَدٍ محمومٍ.
وبالكاد رُبّما يدٌ؛
هذه التي أخذت بيدكِ لأولِ مرّةٍ
لتنبُعَ لوهلةٍ من ارتعاشِها.
مِنْهُ هذه الأطلالُ التي لا تكفُّ عن التداعي،
ولا تكفُّ عن السقوط.
مِنْهُ رُبَّما عِظامُ وَجْنَتَيْهِ
وعلامةِ الإله الصغير الذي ما يزال يحرقُ خَدَّه.
ليس منهُ سوى ذلك المسار البكّاء
والضائع الذي يُفْضي إلى ذراعيكِ.

مِنْكِ مَجْدُ أوَّلِ يومٍ محفورٍ إلى الأبد،
وبريقُ عينيك الناظرتين إلى الخارج،
إلى عراء الجبال الثلجي.
منكِ الصباحُ الضاري المتمرّد
الذي لا تعرفُ فيه الوحوشُ الفتّاكة التي يسيلُ لعابُها
أمام جمالك: أتُحِبَّك أم تنهشك. 
منكِ إخلاصُ يومٍ يسقط، وسماءٍ وبحرٍ يسقطان،
ورجلٍ نحيلِ الظَّهْرِ
يسقطُ ويفلتُ يده من يدك
لكيلا تسقطي، لكيلا ينهارَ
بُطلانُ ليلِه فوق نجومك.

شكراً جزيلاً، ممتنٌّ إلى الأبد.


* ترجمة من الإسبانية: أحمد محسن غنيم

نصوص
التحديثات الحية
المساهمون