قد يبدو شكليّاً، للوهلة الأولى، ذلك البيانُ الذي نشرته وزارة الشؤون الثقافية التونسية، يوم الاثنين الماضي، على موقعها الإلكتروني وعلى صفحاتها في مواقع التواصل الاجتماعي. ذلك أنّنا أمام تقريرٍ يبدأ بالديباجة نفسها التي تقوم عليها تقارير رسمية لا تستدعي انتباهنا عادةً: "أشرفت الدكتورة حياة قطاط القرمازي (...) على جلسة مع الهيئة الاستشارية المشتركة بين الوزارة والمركز الوطني للسينما والصورة ومِهنيّي القطاع".
غير أن قراءتنا للفقرة التالية في البيان ستكون كافية لنعرف خصوصيّته، وخصوصية الاجتماع بين الوزيرة التونسية ومسؤولي الفن السابع في البلد: "ومن بين المواضيع التي تم تناولها الاحتفاء بـ مئوية السينما التونسية، حيث أعلنت الوزيرة تنظيم أيام قرطاج السينمائية 2023 في دورة خاصّة بهذه المناسبة الوطنية الهامّة".
وبالطبع، لم يمرّ كلام الوزيرة هذا من دون إثارة القلق لدى العديد من المثقّفين والناشطين والمشتغلين في الفن السابع بتونس، بل وحتى من خارجها، والذين أعربوا، على وسائل التواصل الاجتماعي وفي الإعلام التقليدي، عن خوفهم من أن كلامها يعني تخصيص الدورة بأكملها لتونس والمخرجين التونسيين، وبالتالي عزل البلد وسينماه عن إطاره العربي والأفريقي.
أعلنت الوزارة أخيراً تخصيص النسخة القادمة للسينما التونسية
ردودُ فعلٍ دفعت الوزيرة إلى التصريح، في اليوم التالي، لـ"وكالة تونس أفريقيا للأنباء"، بأن الدورة المُقبلة (34) من المهرجان السينمائي، التي لم يُحَدَّد بعدُ موعد انعقادها، "ستحافظ على أسسها وخصوصيتها العربية والأفريقية مع مزيد الانفتاح على السينما العالمية". ووضّحت الوزيرة ما جاء في البلاغ بالقول إن مقصدها بالحديث عن "دورة خاصّة بهذه المناسبة" يعني أن الفعالية ستهتمّ "في جزء كبير من فعالياتها بالسينما التونسية التي تحتفل هذا العام بمئويتها، مع الحفاظ على الطابع العربي والأفريقي الذي تأسّست من أجله سنة 1966"، مذكّرةً بأن هذه المناسبة المئوية ستمثّل "فرصة للترويج للصناعات السينمائية المحلّية على نطاق أوسع".
وكان كلام القرمازي هذا سيبدو مُقنِعاً لولا الخلفية التي ترتبط بالمهرجان منذ دورته الماضية، ولولا السياق السياسي الذي يعرفه البلد في الآونة الأخيرة. ولنبدأ بما يخصّ المهرجان. ففي اجتماع مع وزيرة الثقافة أعقب بيومين ختام الدورة الماضية (29 تشرين الأول/ أكتوبر ــ 5 تشرين الثاني/ نوفمبر)، وجّه الرئيس التونسي، قيس سعيّد، انتقاداتٍ للتظاهرة السينمائية في شكلها الحالي، مُشيراً إلى "ما شابها" خلال الدورة الماضية "من ممارسات حادت بها عن الأهداف التي أُنشئت من أجلها".
ولا شكّ أن كلام سعيّد ذاك، الذي نقله عنه بلاغٌ نُشر على صفحات الرئاسة في مواقع التواصل، كان يستهدف مظاهر البذخ والاستعراض، وبالأخصّ ملابس بعض الممثّلات والممثّلين على بساط المهرجان، في صور فتحت نقاشاً في تونس بين مُعارِض لهذه الأجواء بسبب مفارقتها للثقافة المحلّية، ومدافعٍ عنها ورافض لتقييد الحرّيات، خصوصاً أنّ المهرجان ساحةٌ دولية، في رأيهم، قبل أن يكون فضاءً لتقديم التقاليد المحلّية.
انتقد سعيّد العام الماضي ما "شاب" المهرجان من "ممارسات"
وأيّاً يكن، لم يمضِ إلّا يومٌ على اللقاء بين الرئيس والوزيرة حتى خرجت الأخيرة على الإعلام لتُعلِن أن "أيام قرطاج السينمائية" سيتحوّل إلى مهرجان يُقام مرّةً كلّ عامين، بدلاً من شكله السنويّ الذي استقرّ عليه منذ عام 2015. ونظر العديد من المهتمّين إلى هذا القرار بوصفه عقاباً للمهرجان، وعبره لأشكال أُخرى من التعبير الثقافي التي لا تروق أصحاب القرار في البلد. ولا نعرف اليوم، مع البلاغ الصادر حديثاً عن وزارة الثقافة، إنْ كان سيجري العمل بهذا الموعد كلّ عامين، أم إن كانت الدورة المقبلة ستُقام هذا العام، أي بعد عام من الدورة الأخيرة، كما تُلمّح الوزارة حين تتحدّث عن "تنظيم أيام قرطاج السينمائية 2023 في دورة خاصّة".
على هذه القاعدة، إذاً، استُقبلت رغبة الوزارة في تخصيص الدورة المقبلة للسينما التونسية، أي بوصفها كلاماً يستكمل انتقادات العام الماضية للمهرجان من قِبَل السلطة، ويسعى لتقييده وحصْره في إطار التقاليد من باب الاحتفاء بمئوية السينما التونسية.
ويزيد من هذه المخاوف السياقُ السياسي الذي يعيشه البلد في الآونة الأخيرة، وتوجّهُهُ المتزايد نحو انغلاق على الذات بحجّة الهوية والقومية والوطنية، كما استطعنا مشاهدة ذلك في أكثر من سياق: من اعتقال ناشطة بحجّة "التآمر" على الدولة وأمنها، إلى إعطاء السلطات الضوءَ (العنصريّ) الأخضر للتهجُّم على مهاجرين ولاجئين من القارّة الأفريقية بعد أن اتّهمهم الرئيس التونسي، في أحد خطاباته، بارتكاب "عنف وجرائم" وبأنهم يرغبون في "تغيير التركيبة الديمغرافية للبلاد بوصفها عربية وإسلامية"، وصولاً إلى دخول تونس في قطيعة مع عدد من المؤسّسات الدولية، كما جرى أخيراً مع صندوق النقد الدولي.
وقد يرى البعض أنّ مسائل سياسية واقتصادية كهذه لا علاقة لها من قريب أو بعيد بمهرجان سينمائي ثقافي، غير أنّ ما يعرفه المهرجان من محاولات تقييد و"تَوْنَسة" وإغلاق على المختلِف، يُشبه إلى حدٍّ بعيد ما يشهده البلد في مجالات أُخرى، خصوصاً أنّ كلّ القرارات في هذه المجالات تجتمع، في المحصّلة، لدى شخص ورؤية واحدة: قيس سعيّد.