مع كلّ حدث سياسي كبير أو كارثة وطنية أو قومية، يتساءل ويثير نقّادٌ وشعراءُ، أو عابرون، مسألةَ القصيدة العربية في الزمن الراهن أو القريب، فيبدأون الحديث عن "أزمة القصيدة"، ويتمحور الأخذ والشدّ حول ظاهرة يُساء فهمها كثيراً، ولكنها تعبّر في الوقت نفسه عن عدم رضا عن ردود فعل الشعراء، أو عدم ردّهم تجاه الأحداث، أو عن الإحساس بأن القصيدة لا تُغيّر شيئاً في العالم من حولنا.
إثارة هذه المسألة، وبهذا التوصيف، أي أنها "أزمة قصيدة"، تدفع بدايةً إلى السؤال: هل هناك أزمة قصيدة؟ وماذا يعني أن تتأزّم القصيدة، هذه الكينونة التي لا تقوم بذاتها بقدر ما تقوم بفعل إنسان؟
يفترِض هذا التوصيف وأشباهه وجودَ قصيدة عربية واحدة وحيدة تَسوّرَ إليها جمعٌ من الشعراء الأسوار، ودخلوا حديقتها استجابة لحاجتهم إلى "القصيدة" الناعسة تحت أفياء شجرة، أو شرفة، وتناول كلّ شاعر طرفاً من أطرافها، ليتشارك الجميع في رفعها، فتفلت أو تنحطّ أوتنحدر أو تتشابك وتتعقّد سطورها. هذه صورة كاريكاتورية مضحكة تمثّل فرضيةً متخيلة.
لا أعتقد أن هناك وجوداً لقصيدة من هذا النوع، أو في مثل هذا الوضع، لأن القصائد متعدّدة بتعدّد الشعراء، وما يُصيبها مجتمعةً أو متفرّقةً إنما يصيبها بفعل هذا الشاعر أو ذاك. أعني أن الأزمة ــ إن كان هناك من أزمة ــ هي أزمة شعراء، أو بتبسيط أكثر، هي أزمة أفراد من الجنس البشري لم يعودوا قادرين على كتابة قصيدة تنسجم مع طموح متسائلين أو قرّاء أو طموح ثقافة.
إذاً، هناك مطمحٌ ثقافي، يصدر كما يبدو عن وسطٍ أو أوساط قد تكون صحافية أو سياسية أو أدبية أو اجتماعية، ترى أن ما يُكتب ويُنشر من شعر يعجز عن إحداث فِعْلٍ نفسي أو اجتماعي أو ثقافي كما كان يحدث في الماضي، أو يتجاوب مع حاجات الالتفات إلى هذه القضية أو تلك. وتربط هذه الأوساط ــ على الأغلب ــ بين هذا وبين انكسارات وأحداث وهزائم أمّةٍ أو شعب. وبذلك تختلق رابطاً سببيّاً بين هذه الانكسارات وعدم التفات الشعراء إلى ما يشغلها، أو اتجاههم نحو دواخلهم؛ انكسارُ أمة، أو ما ينزل بها من نوازل، يفسّر انكسارَ شعراء، وتفسّر هزيمتها حين تحدث في معركةٍ هزائمَ شعراء. وكذلك العكس أحياناً. كيف يَمْثلُ هذا الانكسار وتتمرأى هذه الهزيمة؟ إنهما يمثلان ويتمرأيان في اتّجاه الشاعر بقصيدته نحو الداخل، وفقدان الاتصال بين قصيدته والخارج، وتحديداً ما يدور فيه من أحداث ووقائع.
هي أزمة أفراد لم تعد قصيدتهم تنسجم مع مطمحٍ ثقافي ما
إذاً، هذا المطمح الثقافي لأوساط متنوّعة المشارب والغايات يريد من الشاعر أن يحمل قصيدته ويتّخذ طريقه إلى الخارج، أن يقف على منبر أو في وسط ميدان، وأن تتّصل قصيدته بما يدور حوله من أحداث، وخصوصاً أن هناك حاجة ملحة، كما ترى هذه الأوساط عادةً؛ فنحن نعيش أزمتين أو أزمات (انكسارات وهزائم) ولا تكون قصيدة الشاعر في نظرهم قصيدة حقاً إلا إذا اتّصلت بالخارج، وتعاملت مباشرةً مع أحداثه وإلزاماته، وإلا فهي في أزمة.
وفق هذا المنطق، لو افترضنا عدم وجود هذه الأحداث والإلزامات، هل ستسمحون للشاعر بالعودة إلى داخله؟ أم ستجدون أزمات خارجية أخرى تسحبه دائماً من الداخل؟
هذا التكييف لما يُدعى "أزمة القصيدة" على خطأٍ من منطلقين: أولاً، لا وجود لتلازمٍ بالضرورة بين انكسار وهزائم أمة وانكسار وهزيمة شاعر. للشعر قوانين انكساره وانتصاره المستقلّة إلى حدٍّ ما. فقد يكون منكسراً ومهزوماً ــ أي رديئاً ــ بكلّ المعاني المتصوّرة، حتى في وسط انتصارات وأمجاد الأمة، وقد يكون عظيماً ورائعاً وسط الهزائم والانكسارات.
ثانياً، لا يترادف الداخل والخارج مع الانكسار والخسارة والاتصال بالخارج وما يدور من أحداث. هذا توصيف لا يصلح لما يدعونه "أزمة القصيدة"، لأن تجربة الشاعر أو الفنان بعامّة لا داخل لها ولا خارج، هي داخل وخارج معاً وشيء آخر هو الحضور الإنساني في العالم. ما الذي نعنيه بالحضور، وما الذي نعنيه بالعالم؟
طموح الشاعر هو أن يحيا الوجود بكل أبعاده في وقتٍ واحد
من المؤسف أن يُقاس حضور الشاعر، سواء في الماضي أو الحاضر، بمعيار ملاحقة الخارج وما يدور فيه من أحداث، لأن حضوره أعمق من هذا بكثير، وعالمه أوسع من حدود هذه القضايا أو الأزمات. هو حاضر كتجربةِ كشفٍ مصيريّ ذي معنى، وعالمه ليس هو فقط عالم الراهنين بل وعالم الذاهبين والقادمين أيضاً. هو تجربة شخصية بالضرورة، وعالٌم مأخوذٌ بتعابير الشخصية الفريدة، ولكنّها من هذا العالم وليست من عوالم أخرى.
اسمحوا للشاعر إذاً أن يُقارب هذا العالم مقاربةً مختلفة عما تُعلّمه المدارسُ والجامعات والأحزاب والحكومات، أو هذه الكتلة التي تسمّونها عادةً المجتمع أو الأمّة. اسمحوا له أن يقول وعيه الشعري بالعالم، لا أن يستعير خطاباتكم، فيتغيّر أو يتوقّف عن التغيّر كما تشاء رغباتكم مهما كان لها من قداسة في نفوسكم.
اذا أفلت الشاعرُ والشِّعرُ من هذه الإلزامات ــ التي أراها خارجيةً، لا تعلُّقَ لها بوظيفة صياغة رؤية فريدة ــ سيقع في حقلٍ مختلف ومعايير مختلفة ومشاغل أعمق، وغاية أكثر روعة، أو بعبارة مختصرة: سيقع في واقع مختلف. حين تسألون لماذا الابتعاد عن الواقع؟ سيسأل الشاعر من جانبه ما هو المقصود بالواقع؟ هل هو هذه الأحداث التي تصفون؟ أم تلك التي يصفها قومٌ آخرون وثقافة أخرى؟ هل هو واقع الماضي أم الحاضر أم الآتي؟ أم هو مجموع كل هذا؟
مقاربة الشاعر للعالم تختلف عما تُعلّمه المدارس والأحزاب
تأمّلوا صورةَ واقعِ الماضي الذي يعيش فينا، وصورة واقع الحاضر، وتأمّلوا صورة واقع الآتي بعين واحدة تعلو على الزمن، عندها ستدركون أن "واقع" الشاعر شيءٌ مختلف يطمح إلى استكمال الوجود أو إحياء الوجود بكلّ أبعاده. دعوتكم للالتصاق بهذا الحدث أو هذه الأزمة هي دعوةٌ لعزف معزوفة ناقصة بآلة واحدة لا تُشارك فيها آلات الماضي ولا آلات الحاضر. وما هكذا يحيا الشعراء أو يودّون للبشر أن يعيشوا حياتهم.
إنني أفترض أن طموح الشاعر هو أن يحيا الوجود بكل أبعاده، أن يحرك أصابعه على أوتار الماضي والحاضر والمستقبل في وقت واحد معاً، ويتّسعُ هذا العالم ويتعمق إذا لم نختصر هذه الأزمات وآلاتها بهذا الشعب أو هذه الطائفة أو هذه القبيلة، وانتبهنا إلى واقعنا الإنساني الباطن. نحن جزء من إنسانية أكبر وأوسع، ووعيُنا جزء من كلٍّ أكبر.
أستنتج من هذا أن الواقع الذي تدعون الشاعر إلى ولوجه أو الالتفات إليه ربما هو شِبه واقع، أو شظية من شظاياه، أو هو واقعٌ افتراضي، وليس هو الواقع الذي يستبطن كل شيء، أعني أساس وجود الكائنات والطبيعة والحياة. هو من هذا بالطبع، فلا شيء في هذا الوجود إلا وهو جزء من شبكة، ولكنّه ليس كلّ شيء. ومن الأفضل الإصغاء إلى الوعي الشعري بالعالَم ومطالبة الشاعر أن يكون فريداً ورؤيوياً في وعيه فحسب، لا صانعَ تسلياتٍ أو ناسخاً أو مُحاكياً أو هاذياً. أن يكون جادّاً وكبيراً في مطامحه، لا باحثاً عن شهرة خادعة أو مهرجان باذخ. نعم، لكلّ إنسان الحق في أن يطالب الفنان والشاعر وكلّ صاحب بصيرة ورؤيا أن يكون جميلاً ومسؤولاً، أن يكون معبّراً عن أعمق النوازع الإنسانية، ولكن اتركوا له أن يكون حرّاً في مقاربته لكلّ هذا وللعالم كلّه، بطريقته الخاصة.
* شاعر وروائي وناقد من فلسطين