ننشر على حلقات رواية "أصوات الصمت"، للشاعر والروائي والناقد الراحل محمد الأسعد، الذي غادر عالمنا في سبتمبر/أيلول 2021، وكان من طليعة كتّاب القِسم الثقافي في "العربي الجديد"، وأحد أبرز كتاب فلسطين والعالم العربي.
الشجرُ لا يكذب، والصخور لا تكذب، هذا ما أقوله لنفسي الآن وأنا أستمع إلى حكاية أعجب، بدأ ميرسول يتململ ليقولها حالما تراجع الميتُ إلى سريره.
أُعجب الجميع بكلمة النمّول المبتكرة دفاعاً عن خصوصية سكّان الغرفة، وثار نقاش حول أهمية تقديم الملك الهاشمي وصاحبه على خشبة المسرح، وتقديم تسجيلات أبو عواد وفيلسوفه المخبول الذي أكّد له أنه لا يوجد في العالم مكان للنوم، والمرأة المولولة على ابنتها الضائعة في أزقة بغداد.
تم إدخال صيّادي البحرين رغم أنه لم تُهرَّب لهم كتب كافية بعد، ودخل الميت وصاحب الجلالة كلقطة تصلح لتأكيد أن البسطاء الحفاة حتى لو قطعوا آلاف الأميال، وعلّقوا آلاف الأشرطة الخضراء على أسوار القصور، لن يكون نصيبهم سوى اعتقالهم بتهمة الجنون والعته، وإعادتهم إلى قراهم مع حبة قمح، وأضاف مخبول الليل كافتتاحية لا بدّ منها لإثبات أن لا مكان للنوم في عالم ترتاده الشياطين.
وهمس الطشّ:
- "أنا موافق، يمكن أن أقوم بدور هذا المخبول".
واكتفى جمال بدور الميت الذي أسندته إليه غالبية الحضور نظراً لمعرفته الموثوقة بالتاريخ الخرافي لأخيه.
- "طيب دعوني، سأضيف قصتي. قصتي في جبال عسير".
هكذا بدأ ميرسول مستثاراً بالتزاحم على توزيع الأدوار:
ولو علّق الحفاة آلاف الأشرطة الخضراء عند القصور فسيظلّ نصيبهم الاعتقال
- "أنت انضممتَ مِن دون أن تدري ولن تدري إلى أسرة الملك الهاشمي، وأنتَ بدأتَ تهريب الكتب إلى أحفاد القرامطة، وعشتَ قروناً من حياة البشرية في لحظة التمعتْ في ذهن مخبول في بغداد، أما أنا فقد رجعتُ إلى عصر حجري لم يكن الدين قد ولد فيه بعد... وعشتُ سنواتٍ في أحضان كاهنة في كهف، أعطيتها في أول لقاء لنا منشفة وصابونة لتغتسل، وتزيل عن شعرها زيتاً وتراباً تلبّد منذ أعوام، فارتعبتْ وصرختْ: 'وش ذي'، ولكنني تغلّبتُ على المفاجأة، وقلتُ هذه صابونة لغسل الوجه واليدين والجسد، وبدأتُ أزورها بين آونةٍ وأُخرى حاملاً هدايا بسيطة تُفرحها، وخلّفتُ منها أولاداً لا أعرف عددهم ولا ماذا جرى لهم بعد كلّ هذه السنوات، أولاداً أذكر أنهم حملوا اسماً واحداً لا يتغير، أولاد أمهيجة ، أي أولاد الهيجة أو الغابة بلسانهم".
هذه المقدمة الدرامية كانت كافية لتجمع حول المتحدّث كلّ سكان الغرفة، فيقترب المتصوّف البعيد، ويترك أحمد كتابه جانباً، ويرفع الطشّ قبضتيه المشدودتين كأنه يقول، نعم. هكذا القصص وإلّا فلا، ويرمشُ النائم المتثاقل بعينيه، ويغادر جمال ظهيراته ويُنصت، ويستند أبو القشب إلى النافذة الخشبية مسنداً ذقنه بيده، ويرتفع صوت أم كلثوم بأغنية "عوّدتِ عيني" من مذياع في الطابق الأول ثم ينقطع الصوت فجأة، ويبدأ مذيع بتلاوة نشرة أخبار بلغة إنكليزية متهدجّة ذات لكنة هندية.
- "كنا هناك مجموعة معلّمين نقلونا من قرية صحراوية، إلى قرية في جبال عسير لنعلّم في مدرستها. هنا الكل ضائع، أهلُ القرية وتلاميذها والمعلّمون. كنا أشبه بالماعز الجبلي، وبعضنا أشبه بالوعول ونحن نُرفع بالحبال إلى موقع المدرسة، فلا طريق إليها إلّا مربوطين بالحبال، وكنا مأخوذين حقاً بهذا الاختلاف الشاسع في بادية واحدة. أين كنا؟ حتى الآن، وبعد كل هذه السنوات، لو سألتم، لن أعرف أين كنتُ، ولا كم من الزمن مرّ علي في تلك المرتفعات. يبدو أنني كنت وراء الزمن أو بعده، وخرجتُ عارياً بلا زوجة ولا أطفال ولا صخرة حتى تشير إلى أنني كنت هناك فعلاً".
ارتفعتْ همسة مبهوتة:
- "يبدو أنكَ زرتَ بلاد الواق واق".
كان الهامسُ هذه المرة جمال صاحب معرض صور النساء الممتلئات، وغمغم النائمُ وهو يحكّ رأسه:
- "سمعتُ عن هذه البلاد من عجوز كان يحكي لنا في غزة، عن امرأة بثوبٍ من ريش حمامة، نزعت ثوبها ونزلت تسبح في بحيرة مع رفيقاتها، فسرق شابٌّ فقير ثوبها وحبسها في مقصورته، وكنا نذهب جماعةً بعد حكايته إلى ساحل البحر، وننتظر أن تهبط الحمائم".
عقَّب النمّول:
- "وكنتَ نائماً كالعادة؟".
فردَّ النائم متحدّياً:
- "لا. كنتُ صاحياً في تلك الأيام".
المتصوّفُ الصامت حتى الآن، هو من أعادهم إلى جبال عسير والماعز الجبلي، بعد أن كاد النائم ورفيقاه أن يأخذوا الجميع إلى بلاد الواق واق.
أسكتهم بإشارة من يده، والتفت إلى ميرسول طالباً منه أن يواصل القفز بين الصخور:
- "دعونا نسمع... خليك في كهف الكاهنة".
وعاد صاحب عسير إلى قصته:
- "ذات أُمسية، جاءني إلى البيت الذي نسكن فيه شابٌ من أهل تلك المنطقة، نحيلٌ أسمر مثل نخلة، أحاط شعره المنفوش برباط من أزهار الشيح، وقال لي بعربية معجونة بفصاحة عتيقة تذكر بعربية عاد وثمود، هكذا ببساطة وابتسامة لا تعرف هل هي ابتسامة جَدْي أم إنسان: أختي تريدكَ".
- "تريدني؟ كيف؟ من هي أختك؟ أنا لاأعرف امرأة هنا".
- "لا يهمّ، هي رأتكَ وتعرفك".
ذهلتُ بالطبع، ولم أدر ماذا أفعل، وتعلّلتُ بأن الوقت متأخّر، فهزّ الشاب رأسَه وابتعد متمتماً أنه سيعودُ غداً لمرافقتي. كنتُ جديداً لا أعرف هل الشاب جادٌّ في ما يقول أم هي حيلة للانفراد بي؟
وأصابني القلق. الذين سبقوني إلى هذه المرتفعات هوّنوا الأمر عليّ، شرحوا لي ما بدا لي لغزاً غير مفهوم. قال كبيرهم البدين الأشقر الذي أمضى سنوات في هذه البلاد، يرتدي الوزرة ويضع الخنجر في حِزامه، ويرسل شعره جدائل أو ينفشه كما ينفشون، ويمضغ القات كما يمضغون:
سرتُ وراءه وكأنني أتدلّى في بئر كلما غصتُ أحسست بالاختناق
- "هذه عادة طبيعية هنا، حين تعجب امرأة برجل تطلبه".
- "وفي بيت أهلها، وترسل أخوها؟".
- "نعم، والأكثر من ذلك، أنك تستطيع مواصلة زيارتها، ولا تطلب منك شيئاً، إلا إذا أحببتَ أن تقدّم هدايا إليها وإلى أهلها، اطمئنّ. هذه عادة أهل البلاد هنا".
- "بلا زواج ولاعقد ولا زفاف؟".
- "بلا شيء، هكذا... علاقة حرة، هي حرة وأنت حر".
- "وإذا سافرتُ ولم أرجع؟".
- "لك ذلك، هم لايطلبون شيئاً".
لم أتوقّف عن ذهولي حتى حين أشرقت شمس اليوم التالي. هل هي مؤامرة؟ هل هي لعبة لاصطياد مدرّس غريب وابتزاز أجره البسيط؟ حقيقة لم أعرف أين القرار في هذه الهوّة التي وجدتني أُدفع إليها، يدفعني الأشقر ماضغ القات وفضولي وغرابة كلّ شيء أسمعه لأول مرّة".
لم يكن الاستغراب نصيب ميرسول وحده، بل شاركه فيه سكان الفيلّا. تبادلوا النظرات، وظلّ المتصوف مستغرقاً يُصغي ويدير في رأسه كلّ كلمة كما لو أنه يفكّر مع ميرسول في حلّ هذا اللغز، بل ويسكن معه هناك ويرى زملاءه يواصلون إغراءه ودفعه إلى قبول دعوة الشاب الغريب، ويرسم صورة لتلك الكاهنة في ذهنه، وذلك البيت الذي سيزوره ميرسول، وماذا سيفعل.
في اليوم التالي، ومع اقتراب المساء، طلبتُ من حارس المدرسة المصري الصعيدي المتجهّم أن يرافقني، ويستعدّ بعصا غليظة خشية المفاجآت، فحمل عصاه، وانطلقنا والشاب يتقدّمنا.
لم يقل الشاب شيئاً، ولكنني لمحتُ ابتسامة ساخرة على شفتيه. هؤلاء ليسوا أغبياء كما نتصوّر، بل ماكرون وصامتون صمتاً لا يستطيع دلوك أن يخرج من بئره بشيء.
وبالفعل سرتُ وراءه كأنني أتدلّى في قعر بئر، وكلما غصتُ أعمق أحسست بالاختناق أكثر. ما كان يجعلني أتنفّس هو مشهد الحارس وعصاه، وهزال بُنْية ذي الشعر المنفوش ورباط أزهاره وهو يتقافز مثل جَدي بين الصخور.
هناك، وبعد أن دخلنا بيتاً نصفه السفليّ صخر وأعلاه طين، وأظنه أقرب إلى أن يكون كهفاً، تنفستُ بعمق. ففي تجويف واسع على يمين المدخل، وما إن انفتح الباب الخشبي المتآكل، حتى لمحتُها، صغيرة مجلّلة بكومة ثياب زاهية لا تعرف لها رأساً من ذيل، جالسة على مصطبة وبجوارها ما خيّل لي أنهما الأب والأم، فأومأتُ للحارس الطويل أن ينصرف، لا حاجة إلى عصاه مع هؤلاء الذين بدوا لي مساكين غارقين في كهف يضيئه مصباح زيتي ضئيل.
هنا عند ضوء المصباح، تنهّد ميرسول بعمق كأنه اختنق بما فيه الكفاية وهو يروي، وما إن وصل إلى كاهنته حتى تخفّف من شريط ذكريات تلك اللحظات وعاد إلى من حوله، وبدأ كلّ واحد من هؤلاء يتخيّل لحسابه الخاص ما سيحدث، بينما كان مذيع نشرة الأخبار بلكنته الهندية يدمدم في الطابق الأول ويخترق الصمت الذي ران عليهم، وسُمعت حركة ما خارج الغرفة، وابتعد أبو القشب عن النافذة.
تأنّى ميرسول وأخرج علبته، انتزع ورقة بيضاء رقيقة من دفتر أخرجه من جيبه لا يتجاوز طوله الإصبع، وملأها تبغاً عطري الرائحة من مغلف الأمفورا، لفّها، ثم بلّل أطرافها بلسانه ومدّدها في العلبة وأغلقها والعيون تراقبه، ثم فتحها، فخرجت اللفافة مكتملة مصبوبة صبّاً.
وواصل وهو يديرها بين أصابعه وعيناه تحدّقان في مكان لا يراه غيره:
- "ما إن دخلتُ حتى انسحبت الأم وتبعها الأب، وتركوني وحيداً. ولكم أن تتخيلوا، ماذا يمكن أن أقول لكومة ثياب لم أتبيّن وجهها بعد، أعتذر؟ أهرب؟ أعود في اليوم التالي؟ كلّ هذا فعلته، ولكنني عدتُ، وبدأت قصتي القصيرة في تلك المرتفعات، في عالم مُبهَم تدخله مرّة في العمر، ولا تعودُ إليه، أو هو لا يعود إليك. والعجيب أنني دخلته بمنشفة وصابونة ودعوة من ذي شعر منفوش ورباط من أزهار الشيح".