ننشر على حلقات رواية "أَطفال الندى"، أبرز أعمال الشاعر والروائي والناقد الراحل محمد الأسعد الذي غادر عالمنا في أيلول الماضي، وكان من طليعة كتّاب القسم الثقافي في "العربي الجديد" وأحد أبرز كُتّاب فلسطين والعالم العربي.
حين أقلّبُ المجلّدَ الضخم أو أقرأ مذكّرات الرجال المشهورين، أكتشفُ شيئاً عجيباً، وهو أنهم يتحدّثون عن أشياء كثيرة، ليس من بينها هؤلاء الناس الذين عرفتُهم، والذين أستطيع تخيُّلَهم محتشدين في هذه الأرض الصغيرة.
وهل كانَ غيرهم هناك؟ الكثيرون سقطوا وضاعوا من التواريخ الرسمية، بل إن بلاداً بأكملها يمكن أن تضمحلّ وتسقط إذا لم نجدها على مقاعد الدَّرس، وحتّى إن وجدناها فإنّ معناها ضائعٌ مثلها بلا مدلول ولا دليل.
فبعض رجال القطروز يتذكّر يوماً مشهوداً في حيفا حين مرّ فيصل واشتبك الناس... ويُثيرني أنا الندى أكثر ما يثيرني أولئك الذين لا أسماء لهم، أولئك الذين أصادفهم في الكتبِ أحياناً وقد احتملتهم الجيوشُ جنوداً بالآلاف... وكأنهم لم يكونوا بشراً من لحم ودم ورغبات وأحلام وبيوتٍ وأراض.
من يعرف الآن وفي هذه اللحظة تلك الوجوه المجهولة التي تموت في أراضٍ بعيدة، في عمق الغابات أو بين الأودية أو تصارع الأمواج؟ إنهم جنودٌ بالآلاف يتحوّلون إلى أرقام وقصص يتذكّرها الابنُ... ثم ينقلها إلى الحفيد... فيتركها هذا بين ألعابه ورفاقه في طريق طفولته، ولا يعود إليها أبداً.
أهُمُ العشبُ نفسه؟ هذا الذي نقتلعه فيجفّ في الشمس ولا يعود له أثر، أولئك الفلّاحون من قرية الدوايمة الذين استيقظوا تحت سمائهم على أصوات رصاص وقنابل اليهود القادمين من غيتوات أوروبا الكالحة فلجؤوا إلى المَغارة بأطفالهم ونسائهم، فأغلق البولونيون والتشيك والروس والبلغار والألمان عليهم باب المغارة، وأضرموا النار في مدخلها، ليختنقَ الجميع بالدخان؟
أهُمُ الغبار، أولئك الذين اقتادهم جيشُ نابليون على شاطئ يافا بعد أن جوّعهم طوال يومين أمام خيمة القائد، فأوقفهم وظهورُهم إلى البحر، وحصدهم بالرصاصِ والحرابِ، ومَن ألقَى بنفسه في الماء لاحقته الزوارق وصبغت بدمهِ المياه.
كانوا آلافاً، ذكرهم الجندي بيروس في رسالة إلى أمّه وأضاف: "وجدنا بين الضحايا أطفالاً كثيرين تشبّثوا وهم يموتون بآبائهم".
مَن هُم أولئك الأسرى الذين حشدَهم الصليبيون فوق أسوار عكّا وبدؤوا بقطع رؤوسهم واحداً بعد الآخر، وألقَوا بجثثهم في الحفرة الدامية؟
بلادٌ بأكملها يمكن أن تضمحلّ وتسقطَ إذا لم نجدها على مقاعد الدرس
إنّ ذاكرتنا غيرُ محتشدة بما فيه الكفاية لكي نكتب الرواية، رواية البكاء الفلسطيني المتواصل منذ أن قامتِ القرى، وعُرِف القمح والزيتون والجرار، وشُقتْ قنوات الماء في جوف الجبال، وانحدر أجدادنا من المغاور وانتشروا في السهول لبناء بيوتهم ومراقبة الزيتون وهو ينتشر ويصعد مفتّتاً الصخور.
إن ذاكرتنا غير محتشدة بما فيه الكِفاية، بعد أن اخترقتها التوراة القادمة من الصحراء، لتقيم في ذاكرة فلسطين مع انتشار الطائفة اليهودية، وصعودها وهبوطها مع الغزاة... فُرسٌ... يُونان... رومان... صليبيون... وأخيراً أبناء الشيطان هؤلاء الذين خلعوا أسماءهم البولونية والألمانية واستعاروا أسماءنا، وارتدوا ثيابنا، وتغلغلوا في لحم أرضنا، مدّعين نسباً عجيباً وذاكرة أكثر عجباً.
إنّ دوروثي غرود يصيبها المخاضُ وراء البحر، كما يصيب المخاضُ كلّ من مسّته يدُ الشيخ حمزة، وتعلو وجهها صفرةٌ ذاهلة وهي ترقد في الريف البريطاني محاطةً بأغنياتها وأشباحها، وخيالِ الكهوف ذات التراب الأحمر التي تصبّبَ فيها عرقُها، محاطةً بتلك الهياكل العظمية الخاوية المحاجر والملتصقة بالترابِ بعد أن عادتْ جزءاً منه، وتلك القطع الذهبية المغبرّة التي وجدتها في جرار مدفونة إلى جوار الموتى.
وحين يضمحلّ كلّ هذا، يظلّ فوقها وجه الشيخ حمزة بلحيته البيضاء، وجسده الشبيه بجسد الثور وبريق عينيه وهو يطلق في أعماقها نفحة الحياة... هي الذابلة التي ازدهرتْ ورَبَت للحظات في إحدى مغارات الكرمل.
لقد جاءها المخاضُ أخيراً، وتساقطَ عليها مثل الندى ذلك الحلمُ القديم بأن تتغلغل في التاريخ وتكون جاريةً من جواريه. كان الشيخ حمزة يقول لها بلغة إنكليزية سليمة وهو منكبٌّ فوقها: "أيتها الإنكليزية الحمقاء.. ألم تدركي بعد أنني من هؤلاء الذين تعبثين بعظامهم؟"... فتُتمتم واللذة تخترقها والرعبُ يجمع أنفاسها: "بلى... بلى".
كان ذلك في أحد أيام العام 1938، والجوّ شتاء، والنسماتُ الباردة تتطاير عند مدخل المغارة الدافئة بالأحياء فيها، وقبل ذلك بأيام كانت مواطنتها المس فرنسيس نيوتن تأخذ طريقها صاعدةً في الجبل إلى قرية إجزم لتشاهد حطام ثلاثة أيام من البربرية الإنكليزية، حين اقتحم جنودُ وضباطُ ملكِها البريطاني إجزم فنسفوا البيوت وسرقوا المواشي وأطلقوا الرصاصَ على كلّ من وجدوه خارج بيته. كانت السرقة والنهب مخطّطاً ملكيّاً لتقويض مقاومة الفلّاحين، والانتقام لأعصابِ كبار جنرالاتهم التي حطّمتها بنادقُ عثمانية عتيقة بأيدي الفلّاحين الفلسطينيين.
وتغلغلوا في لحم أرضنا، مدّعين نسباً عجيباً وذاكرة أكثر عجباً
قالت نيوتن: "كان محمد الشنبور جالساً أمام بيته في الصباح الباكر مع زوجته، ففتّشه الجنود ووجدوا في زنّاره 25 جنيهاً فطلبوها منه، فرفض... فاقتادوه بعيداً عن بيته، وراء السناسل الحجرية وأطلقوا عليه الرصاص، وطعن جندي رأسه بحربته... بحيث لم يستطع المختار التعرّف عليه... وجمع القرويّون مخّه المتناثر في سلّة".
دوروثي غرود لم تعد تتذكّر إلّا تلك اللحظة التي وصلت فيها إلى قناعةٍ كاملةٍ بأنّ يهودَها الذين جاءت تبحثُ عنهم في مغارات الكرمل لم يكن لهم وجود، ولم يمرّوا بهذه الأرض، وأنها كانت تفتش في المكان الخطأ... تماماً كما ستكتشف بعد ذلك بأربعين سنة عالمةُ آثار تدعى كاثلين كينون أن الحجرَ الفلسطيني لا يخفي تحته غير الحجر الفلسطيني. وكلّما تزايد عمقُ الحفريات تزايد ظهور الفلسطيني يرافقه ذلك الصوت الصامت الذي تطلقه التوابيتُ والنواويسُ الكنعانية وصولاً إلى الغلاف الصخري.. وربّما إلى لبّ الأرض، حيث يغلي كلّ شيء، ويكاد يندلع الجحيم.
هذه العقود... وهذه النقود الذهبية التي يُسمّيها الفلاحون المتليك، وهذه الأواني والجماجم ليست مما ذكره أحد. وتفكّر دوروثي غرود... إنّها فلسطين المجهولة... ولكنّ الحقيقية... هذه التي تزدهر نقوشها وأساطيرها على صدور وقامات الفلّاحات الفلسطينيات حتى اليوم.
إنها لا تمُتُّ بصلة لتلك التي وُلدتْ في ذاكرتها نتيجة أخطاء في ترجمة التوراة، وها هو الإله/ الثور يؤكّد يقينها بعينيه الغامضتين، وهو يضحك مختطفاً جسدها من الأسطورة التي نشأت عليها، معفّراً جسدها بالتراب الحقيقي المائل للاحمرار، ثم يرميها بعيداً وهو يستدير بعد أن جمع حوله أطراف "دِمايته" وانطلق صاعداً مثل شابٍّ في العشرين تتدحرج الصخورُ وراء أقدامهِ... وتظلّ تُصغي إلى وقع خطاه على الصخر، وتتذكّر الإله بعل المقرون الحواجب وهو يصعد إلى الأعلى حيث يقيم.
التاريخ الذي لا يعني شيئاً حين لا يتذكّر الدم
أما نيوتن فقد ذهبت إلى حيث يبيع الجيش البريطاني منهوباته من المواشي من أهل إجزم وقرى الكرمل، واشترت ماعز محمد الشنبور حتى يظلّ لأطفاله على الأقل شيءٌ من الحليب.
يالهذه البذرة المنسية التي سقطتْ وتصلّبتْ في التاريخ... التاريخ الذي لا يعني شيئاً حين لا يتذكّر الدم... وبكاء الأطفال المتشبّثين بآبائهم وهم يُذبحون على شاطئ يافا، أو وَهُم يفاجؤون بهم محمولين على الأكتاف مضرّجين بالدم وزرقة وبلاهة الموت.
ستعود نيوتن إلى الحياة مجدّداً حين يتذكّرُها الحاج القطروز وصاحبه ذو العنق الدجاجي في ذلك النهار الخاوي إلّا من النحيب الصامت، ويعلّق أحد الجالسين: "كان فيهم أناس... بشر... أمّا حكومتهم فكانت حكومة أبالسة".
لقد فاجأ المخاضُ دوروثي غرود إذن، واكتملتِ الدائرة التي قادَتها من الريف البريطاني إلى مغارات الكرمل، وأعادتها مرّة أُخرى بحقائبها ونظّاراتها الطبيّة وأوراقها التي لن نراها إلى ريف برايتون، ولكن هذه المرّة مع حُلمِ حياةٍ أو حياةِ حُلمٍ سيضمحل بدوره، وبدل أن تنشغل بهذا الحدث غرقتْ في ندى تلك البلاد البعيدة الآن عن جسدها وعن توراتها. وكبر الطفلُ في خيالها، واتّخذ له اسماً، وتعلّمَ لغته الانكليزية السليمة... لغة المَلكة ربّما، ولكنه لن يعرف أبداً أن أباه هو مجرّد ثورٍ مقدّس من الشرق، كانت أمّه لحظةً في ذاكرته الشاسعة.